تجربة تدريس مقرر (أصول التدبر) في الدراسات العليا

د. فهد بن مبارك الوهبي

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.. وبعد..
فأضع بين يديكم تجربة تدريس مقرر أصول تدبر القرآن الكريم، وهو أول مقرر يُدرس في الجامعات ـ بحسب علمي ـ، يختص بهذا الموضوع، وبهذا العنوان، حيث تم إقراره ضمن مواد مرحلة الماجستير في قسم الدراسات القرآنية بجامعة طيبة، وأُسْنِدَ إليَّ تدريسه كأول مُدَرِّسٍ له، مما دعاني إلى بذل الجهد في وضع التصور لمفردات المادة، وابتكار تدريسها بطريقة تحقق الغاية منه، وتُبعده عن كونه مجرد مقرر يحفظ ويمتحن فيه.
وسوف أستعرض هذه التجربة من خلال النقاط الآتية:
• آلية إقراره ضمن مواد الماجستير في القسم .
• مفردات المقرر ومواضيعه.
• الطريقة المثلى في تدريسه وعمل الامتحان الخاص به.
• علاقة المقرر بمقررات التخصص الأخرى.
• محاذير عند تدريس المقرر.
• المشاريع العلمية والدعوية المتعلقة بتدريسه.
• نماذج من أبحاث الطلبة في المقرر.
• توصيات علمية وتعليمية.

آلية إقراره ضمن مواد الماجستير في القسم وأسباب ذلك:
كانت الحاجة ماسةً لتأصيل علم تدبر القرآن الكريم، والعناية به مع وجود المؤسسات التي أسست لأجل بثِّ مفهوم التدبر، ولفت أنظار الناس للعناية به، وإجراء الأبحاث العلمية لتأصيل مفهومه وتحديده والتفرقة بينه وبين غيره من المصطلحات كالتفسير والاستنباط والتأويل وغيرها.
وقد رأى قسم الدراسات القرآنية بجامعة طيبة، ضرورة مشاركة المتخصصين في الأقسام الأكاديمية، في العناية بهذا الموضوع ودراسته دراسة علمية من خلال القاعات الدراسية في مرحلة الماجستير التي تتسم بالنقاش والتشاور العلمي، وقد وافق ذلك توجه الجامعة إلى إعادة صياغة مقررات الأقسام الأكاديمية، فتم اقتراح مادة (أصول التدبر) ضمن مقررات مرحلة الماجستير للأسباب الآتية:

  1. الوقوف على أهمية التدبر وأنه أحد المقاصد العظيمة التي من أجلها أنزل الله القرآن الكريم على نبينا محمد .
  2. الوقوف على طرق استخراج مكنونات القرآن الكريم وإشاراته وفق الضوابط المقررة عند أهل العلم .
  3. معرفة طريقة السلف في تدبر القرآن الكريم وتفهمه والعناية به وحفظه وتعلمه وأثر هذه الطريقة على تمسكهم به ، والفرق بينها وبين طريقة المتأخرين في أخذ القرآن ، واختلاف النتائج .
  4. معرفة أنواع المعاني والأحكام المستنبطة من القرآن .
    مفردات المقرر ومواضيعه:
    رأى القسم وضع المفردات الآتية:
    أولاً: الجوانب النظرية:
    1 – تعريف التدبر .
    2 – الفرق بين التدبر والتفكر والنظر والاستنباط.
    3 – الفرق بين التدبر والتفسير بالرأي .
    4 – فضل هذا العلم وامتداح الله ورسوله لأهله، فهم أهل التأويل وهم الذين يعقلون الأمثال ويفهمون دقائقها فسماهم العالمون .
    5 – الآيات والأحاديث الواردة في التدبر والتفكر .
    6 – أنواع المعاني في القرآن من حيث الخفاء والوضوح والحكمة في ذلك.
    7 – طريقة السلف في التدبر والتفهم وتعلم القرآن . وقصة عمر بن الخطاب حيث تعلم سورة البقرة في عشر سنين ، نموذجاً ، وعبد الله ابنه في ثمان سنين .
    8 – الركائز التي يقوم عليها التدبر :
     معرفة الوارد عن السلف في التفسير .
     فهم لغة العرب والأصول التي يتركب منها كلامهم ، وتراكيب الجمل ، والأدوات التي يستخدمها القرآن ومعانيها .
     الإدراك الكامل للقواعد الأصولية والترجيحية التفسيرية .
     المعرفة بمقاصد الشريعة وكلياتها ، وما تقتضيه عمومات الأدلة .
     معرفة المناسبات وترابط الآيات والسور ومواضيع السور وأثر ذلك في التفسير .
     تحديد المواضيع الرئيسية للقرآن.
    9- أساليب التدبر:
    الأسلوب الأول: الحث المباشر على التدبر العام للقرآن.
    الأسلوب الثاني: توجيه الخطاب لأصحاب العقول والنهى.
    الأسلوب الثالث: ضَرْبُ الأمثال بقصد التفكر والتذكر.
    الأسلوب الرابع: تعليلُ الآياتِ وختمُها بما يدعو إلى التدبر.
    الأسلوب الخامس: ذكر القصص القرآني للتفكر والعبرة.
    10- الأسباب المعينة على التدبر:
    أ – معرفة الله تعالى وتعظيمه.
    ب- التمهل والتأني عند القراءة.
    ج – فهم القرآن.
    د -تحسين الصوت عند القراءة.
    هـ -فهم لوازم النص ومقاصده.
    11- ثمرات التدبر:
    الثمرة الأولى: التدبر الصحيح يهدي إلى الإيمان ويزيده.
    الثمرة الثانية: التدبر يبعث على الخشية والخوف والرجاء والدمع.
    الثمرة الثالثة: التدبر يورث العمل.
    ثانياً : التطبيق :
    يتم التطبيق على آيات مختارة من كتاب الله تعالى بحيث يتناول الأستاذ مع طلابه تحليل هذه الآيات وتدبرها واستخراج ما فيها من حكم وأحكام وعبر وعظات من خلال المحاور التالية :
     تفسير الآية بالمأثور ويشمل .
     تفسير الآية بالمنقول عن الصحابة والتابعين .
     معنى المفردات التي تتكون منها الآية في لغة العرب والرجوع إلى أصل اشتقاق هذه المفردات وأثر العلاقة من حيث المعنى بين الألفاظ المشتقة من هذا الأصل ، وأثر ذلك في التفسير ،والخروج بطيف واسع من المعاني التي تحتملها الآية ، ثم يبدأ الأستاذ مع طلابه بتحرير هذه المعاني المحتملة ، وتمييز ما يصلح منها وما لا يصلح حسب الضوابط المعتبرة . على ضوء ما اشترطه أهل العلم للتفسير بالرأي .
     ما يؤخذ من الآيات من أحكام فقهية .
     ما يؤخذ من توجيهات وآداب وسلوك وأخلاق وقيم .
     ما يؤخذ من بلاغة وتركيب .
     ما يؤخذ من دلائل الإعجاز .
     ما يؤخذ من حكم وأمثال وعظات .
     ما يؤخذ من تعظيم وإجلال وصفات أو رغبة أو رهبة لله .
    ثالثاً: نماذج لآيات يتم التطبيق عليها :
     التأمل في سورة الفاتحة ، وعلاقتها بالكتب السابقة وبالقرآن الكريم وكونها أول سورة في القرآن ، وما تضمنته من معان عظيمة مهما تأمل العبد فيها فإنه يعجز عن إدراك بعضها . ويسترشد في ذلك بما كتبه ابن القيم في مدارج السالكين .
     التأمل في سورة المائدة .
     التأمل في سورة محمد .
     التأمل في سورة الممتحنة .
     التأمل في سورة التغابن .
     التأمل في سورة المطففين .
     التأمل في سورة الليل .
     التأمل في سورة الإخلاص .
     التأمل في آيات المنافقين في أول البقرة والنساء والمائدة والتوبة والحشر والمنافقون .
    الطريقة المثلى في تدريسه وعمل الامتحان الخاص به:
    كان من أهم التنبيهات التي ذكرتها للطلاب والطالبات في أولى محاضرات هذا المقرر الخوف من أن يتحول المقرر من كونه جانباً تطبيقياً قلبياً يثمر العمل والإتباع إلى كونه مادة يتم حفظها واستظهارها لأجل الاختبار بها .
    ولأجل البعد عن هذا المحذور تم تقسيم طريقة التدريس فيه بالمشاركة مع الطلاب والطالبات، بحيث تكون طريقة التدريس كالآتي:
    • يتم تقديم المواد النظرية التأصيلية الأولى من قبل أستاذ المقرر، ويشارك الطلاب والطالبات في تحرير ما يتم إلقاؤه وإبداء وجهة النظر حوله.
    • يتم التوسع في ضرب الأمثلة لكل جانب نظري من عدد من آيات القرآن الكريم.
    • يتم تكليف الطلاب والطالبات بإعداد مواد تدبرية لآيات يختارونها ولا يُشترط عدد معين من الآيات، فقد يقتصر طالب على ثلاث آيات بينما يتناول آخر ما يزيد على عشر آيات.
    • يتم إلقاء المواد التدبرية أثناء المحاضرات وإعطاء كل مادة (20) دقيقة ثم يتم التعليق عليها أولاً من قبل أستاذ المادة ببيان أبرز الجوانب التدبرية المذكورة في المادة، وأهم ميزاتها، والملحوظات العلمية حولها، ثم يتم التعليق عليها من قبل الطلبة لبيان الأمور السابق ذكرها.
    • تم توجيه الطلاب والطالبات للاستعانة بالمواد المرئية والمسموعة وعمل العروض الفلاشية للمساعدة في عملية التدبر للآيات، وعرضها ضمن المادة التي كُلِّفوا بها.
    • تم توجيه الطلبة لضرورة أن تكون صياغة المادة التدبرية من قبلهم كاملةً وبأسلوبهم الخاص، للتدريب على التدبر، واكتشاف قدراتهم في هذا الموضوع.
    • وقد تم الحفاظ على روح التدبر أثناء المحاضرات والبعد عن التلقي فقط، مما أثر على الطلاب والطالبات أثناء المحاضرات وظهر ذلك في التأثر أثناء إلقائهم لموادهم أو الاستماع لمواد زملائهم، وإبداء ذلك في نهاية المحاضرات.

وأما طريقة الاختبار التي رأيت أنها تحقق المقصود منه:
فقد قسمت الاختبار في المادة إلى قسمين :
الأول: وضع أسئلة عن الجوانب النظرية في أصول التدبر، كتعريفه وشروطه والأسباب المعينة عليه .
الثاني: عمل تطبيق مباشر لآيات لم يتم تحضير تدبرها من قبل الطلاب والطالبات، بحيث يُكتب للطلبة آيات معينة ويُطلب من الجميع كتابة تدبراته لهذه الآيات، ويتم تقييم ذلك في ضوء ما درسوه من المقرر ومدى استيعابهم للفرق بين التدبر والتفسير.

علاقة المقرر بمقررات التخصص الأخرى:
لا شك أن تدبر القرآن الكريم ذو علاقة وثيقة بمواد التخصص في الدراسات القرآنية.
ويمكن الإشارة إلى العلاقة كما يأتي:

  1. علاقته بالتفسير: فالتدبر الصحيح لا يكون إلا بعد معرفة التفسير.
  2. علاقته بعلوم القرآن: فالتدبر هو ثمرة دراسة علوم القرآن وتطبيقها على كتاب الله .
  3. علاقته بالاستنباط : لا يكون الاستنباط إلا بعد التدبر والتأمل للقرآن الكريم. فالاستنباط مبني على التدبر.

محاذير عند تدريس المقرر:
إن موضوع تدبر القرآن ينبغي أن يُعنى به طلاب العلم تحقيقاً للغرض الذي أُنزل لأجله القرآن الكريم: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب)، إذ هو بوابة الإيمان وسبيل الاتباع لشرع الله ، ولأجل ذلك فإنه ينبغي التنبه والحذر مما يأتي أثناء تدريس المقرر:

  1. تحويل المقرر إلى مادة جافة يُقصد منها مجرد الحفظ لأجل الاجتياز فقط. وذلك بأن تكون المحاضرات لمجرد التحرير للمصطلحات والأقسام وذكر الخلافات بينها.
  2. عدم التوسع بضرب الأمثلة: فإن مجرد التحليل النظري لهذا المقرر لا يكفي بل لابد من ذكر الأمثلة سواء كانت منقولة عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء ورحمهم، أو كانت أمثلة يتم ضربها من قبل الطلاب والطالبات من باب التدريب على تدبر القرآن الكريم.
  3. ينبغي أن لا يفهم الدارسون للمقرر أن ما يقومون به من أبحاث هو عبارة عن مسائل يتم تحريرها من كتب التفسير، بل المقصود أن يقف الدارس مع الآيات وقفات تدبرية يصوغها هو بأسلوبه، فتكون نتيجة تأملاته لآيات القرآن الكريم، ثم يقوم بإلقائها أمام زملائه، مستشعراً ضرورة نقل المستمعين بالأساليب المختلفة لتذوق حلاوة تدبر القرآن الكريم. بحيث يستخدم المواد المسموعة والمرئية المناسبة أثناء إلقاءه للمادة المحضرة.
  4. ينبغي ألا يدرس المقرر إلا من له عناية بالوقوف مع آيات القرآن الكريم، واستلهام العبر والعظات منها، وله القدرة في إيصال روح التدبر إلى الدارسين.

المشاريع العلمية والدعوية المتعلقة بتدريسه:
تم اقتراح عدد من المشاريع العلمية مع الدارسين للمقرر لزيادة العناية بالموضوع، ولامتداد التواصل خارج القاعات الدراسية، ولتحقيق الاستفادة المثلى من المقرر، ومن تلك المشاريع:

  1. فتح صفحة على موقع الفيس بوك أثناء تدريس المقرر، بعنوان (أصول تدبر القرآن الكريم) تهدف إلى تنزيل الوقفات التدبرية فيها والنقاش حولها، بحيث تكون ورشة عمل للوصول للتدبرات الصحيحة من القرآن الكريم.
  2. تم الاتفاق مع مؤسسة إنتاج لعمل أفلام مرئية قصيرة لتدبرات مختلفة لآيات من القرآن الكريم، وتعتمد تلك الأفلام على ما يقدمه الطلاب والطالبات من أوراق تدبرية، بحيث يتم تسجيلها صوتياً وإدخال بعض المرئيات المناسبة والتي لا تتنافى مع مكانة تدبر القرآن الكريم. وستكون خطة العمل شاملة للغة العربية والانجليزية لهذه المواد.
  3. تم تكليف الطلبة بعمل أفلام قصيرة للتدرب على المقصود في المشروع السابق، وقد تم ذلك.

توصيات علمية وتعليمية:
وفي ختام هذه الورقة المختصرة في هذا الموضوع، أشكر الله الذي يسر لي تدريس هذا المقرر والعناية به وكتابة بعض الأبحاث النظرية فيه، إذ هو تحقيق لغاية إنزال كتاب الله على خلقه، وأوصي بهذه الوصايا العلمية:

  1. بحث موضوع (أصول تدبر القرآن دراسة تأصيلية) في رسالة علمية سواء في مرحلة الماجستير أو الدكتوراه؛ وذلك للحاجة إلى تأصيله وبيان منهجه من طريقة سلف الأمة تعالى.
  2. عدم الإغراق في الجوانب النظرية في موضوع تدبر القرآن الكريم، فالهدف منه العمل والاتباع، وزيادة الإيمان، وهو المطلوب في كل محاضرة يتم إلقاؤها على الدارسين له.
  3. الاستفادة من كتب السير والطبقات في استخراج الأمثلة التطبيقية لهذا الموضوع.
  4. عدم إرهاق الدارسين بالأبحاث الكثيرة أثناء تدريسه، بل المقصود أن يركز الباحث جهده على صياغة مادة تدبرية لآيات هو يختارها، ويحقق معنى التدبر فيها.
  5. تأخير تكليف الدارسين بالأبحاث إلى ما بعد تحقق التصور الصحيح لديهم لمفهوم التدبر والفرق بينه وبين التفسير حتى لا يتم الخلط بينهما أثناء كتابة الأبحاث التدبرية.
    والله أعلم وهو الموفق لكل خير،،،
    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين

العزيز المفقود - الموقع الرسمي
Logo