مونعيم مزغاب
الابتلاء سُنَّةٌ ربانية ماضية، ويحاول هذا المقال الكشف عن طرفٍ من الحكمة في نزول البلاء ومنهج التعامل معه في القرآن، من خلال تسليط الضوء على أحد المواطن التي تعرَّض فيها القرآنُ لذكر ابتلاء حَلَّ بأحد الأقوام السابقة، والوقوف مع هذا الموطن عدّة وقفات تحليلية.
تمهيد:
تعيش الأمة بل الإنسانية جمعاء على وَقْعِ انتشار وباء الكورونا المستجدّ، وقد مسَّ الناسَ جميعًا الضرُّ المستبِدّ، فصارت الأممُ في أبدانها وحياتِها مقهورة، وفي حالتِها الاقتصادية والمعيشية مدحورة، بل عن ولوج المساجدِ ودُور العبادات وذكرِ اللهِ فيها مزجورة؛ وانحبس الغالبية في مساكنهم وأصاب جملةً من مرافق الحياة الاعتيادية التعطيلُ، وتعذّر على أهل الاختصاص الطبي إلى حدّ الآن للدواء السبيلُ.
فما الحكمة من سُنّة الله في إنزال البلاء على بني البشر تنزيلًا؟ وما منهج القرآن في التعامل مع الأوبئة لمن لم يكن جَنانه عليلًا؟ وما مكانة الدعاء فيه لمن لم يكن ممّن لا يذكُر اللهَ إلّا قليلًا؟ وماذا يستفيد المسلمُ في خاصّة نفسه من هذه الآيات اعتبارًا واهتداءً واتخاذًا إلى الله سبيلًا؟
نتدارس آياتٍ ثلاثًا من سورة الأعراف، نجعلها لنا في فهم الحكمة من البلاء ومنهج التعامل معه نبراسًا، فتكون لذلك أصلًا وأساسًا، قال تعالى: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}[الأعراف: 134-136].
آيات الرجز في سورة الأعراف؛ السياق والمساق:
سورة (الأعراف) هي السورة السابعة في ترتيب المصحف، وسادسة السبع الطوال، آياتها ست ومائتان، وهي سورة مكيّة كلّها إلّا خمس آيات؛ أوّلها: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ…}[163-167][1].
لا شك أن المتدبّر لسورة الأعراف يدرك أنّ مِنْ أَبْلَغِ ما قَصَدَتْ إليه توجيهَ الأبصار والبصائر إلى مكنونات هذا الكون وأسراره، وظواهره وأحواله، وبيان أنّ سُنّةَ اللهِ لا تتبدّل ولا تتغيّر في التعامل مع الأقوام السابقة واللاحقة، وأنه يرسل آياته الكونية فيأخذ اللهُ بها المكذِّبين بالبأساء والضراء؛ لعلّ قلوبهم ترِقُّ وتلينُ وتتّجه إلى الله، وتعرف حقيقة ألوهيته. فإذا هم تكبّروا ولم يستجيبوا؛ ابتلاهم بالنعماء والسرّاء، وفتح عليهم أبوابَ كلّ شيء، حتى إذا انتهى بهم اليُسْر والعافية إلى الاستهتار وقلّة المبالاة والأمن من مكرِ الله، وظنوا أنهم مسيطرون على أقدارهم وأنهم قادرون على التحكّم في مصائرهم، وتوهّموا أن الدنيا سائرة بلا قصد ولا غاية، أرسل لهم مرّة أخرى الآيات الدالّة على ضعفهم وهوانهم فحلَّت بهم الضرّاء والبأساء لعلّهم يدركون قدرةَ اللهِ وعظمته، ويتدبّرون حكمته في تقلّب الأمور بالعباد، فإنْ لم يرجعوا عن غيّهم ويتقوا غضبه بالتوبة والأوبة، وعاشوا كالأنعام بل أضلّ، جاءهم بأسُ الله الأكبر بين يدي يوم عظيم أعاذنا الله من غضبه وسخطه.
يوضح هذه المعاني الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره الآيتين: 94، 95 من سورة الأعراف: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}. حيث قال: «يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ} يدعوهم إلى عبادة الله، وينهاهم عن ما هم فيه من الشر، فلم ينقادوا له؛ إلّا ابتلاهم الله {بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}، أي: بالفقر والمرض وأنواع البلايا؛ {لَعَلَّهُمْ} إذا أصابتهم، أخضعت نفوسهم فتضرعوا إلى الله واستكانوا للحقّ. {ثُمَّ} إذا لم يُفِد فيهم، واستمرّ استكبارهم، وازداد طغيانهم؛ {بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} فَأدَرَّ عليهم الأرزاق، وعافى أبدانهم، ورفع عنهم البلاء، {حَتَّى عَفَوْا} أي: كثروا، وكثرت أرزاقهم وانبسطوا في نعمة الله وفضله، ونسوا ما مرَّ عليهم من البلاء، {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ}، أي: هذه عادة جارية لم تزل موجودة في الأولين واللاحقين: تارة يكونون في سرّاء، وتارة في ضرّاء، وتارة في فرَح، ومرة في ترَح، على حسب تقلّبات الزمان وتداول الأيام، وحسبوا أنها ليست للموعظة والتذكير، ولا للاستدراج والنكير. حتى إذا اغتبطوا، وفرحوا بما أوتوا، وكانت الدنيا أَسَرّ ما كانت إليهم، أخذناهم بالعذاب {بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}، أي: لا يخطر لهم الهلاك على بالٍ، وظنوا أنهم قادرون على ما آتاهم الله، وأنهم غير زائلين ولا منتقلين عنه»[2].
هذا، وتتحدّث آيات الرجز في سورة الأعراف المقصودة بالمدارسة في هذا المقال عن فرعون وقومه الذين عاندوا وجحدوا، وعن منهجِ سيدنا موسى -عليه السلام- ابتعدوا، فأرسل اللهُ الواحدُ الأحدُ عليهم الآيةَ تلو الآية لعلّهم في الدنيا لا يكونون من الأشقياء وفي الآخرة يُبعثون مع السعداء، غير أنهم تماطلوا حتى بلغ منهم الجَهد وأحسّوا بالعجز لمّا حلّ بهم الرجز.
قال أُسامة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الطّاعونُ رِجْزٌ أُرسِل على طائفةٍ من بني إسرائيل -أو على مَنْ كان قبلَكم-»[3]، «وقال ابنُ جُبَيرٍ عن الرجز: إنه كان طاعُونًا ماتَ بهِ من القبطِ في يومٍ واحدٍ سبعون أَلفًا»[4].
وقال ابن عبد البر: «وأمّا الرجز فالعذاب، لا يختلف في ذلك أهل العلم باللسان، من ذلك قوله: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ}[الأعراف: 135]، وهو كثير. وكلّ ما ابتُلي به الإنسان من الأوجاع والمحن والشيب وغير ذلك فهو من العذاب»[5].
إنّ خلاصة الآيات تتمثّل في تعرّض قوم موسى للرجز باعتباره طاعونًا وعذابًا اضطربت له النفوسُ والأبدانُ، ألجأهم وهم لا يزالون على كفرهم إلى التماس دعاء موسى لكشف البلاء من الواحد الديّان، وعاهدوه على الإيمان بالرسالة وتحرير بني إسرائيل، غير أنهم نكثوا عهودهم في كلّ مرة فأخذهم الله بالعذاب الوبيل. والدروس المستفادة منها كثيرة أحاول الوقوف عند خمسة منها:
الوقفة الأولى: البلاء بين قصم الظهور الطاغية وبناء الآذان الواعية:
من الهدايات القرآنية المستنبطة من تكرّر ذكر آيات العذاب والبلاء المسلَّط على الأقوام السابقة أن فيها دلالة على ثنائية التعذيب والتهذيب؛ حيث ينال الطغاة ما يستحقون من عذابٍ حين لا يعتبرون بآيات الله المتتالية من جهة، ومن جهة أخرى يكون العذاب نفسه تذكرة لغيرهم ممن نجوا من البلاء، فتستقر سُنّةُ الله في الوعي الفردي والجماعي للأمم اللاحقة لعلهم يعتبرون، فيحمل البلاء الإلهي بين طيّاته معنى الأخذ الرابي والتعذيب لبعضهم، ومقصد التذكرة والتهذيب لبعضهم الآخر. قال تعالى في سورة الحاقة عن فرعون وغيره: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً * إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}[الحاقة: 9-12].
إنّ آيات الرجز في سورة الأعراف وإن كانت تقصُّ علينا ما أَرْسَل اللهُ من بلايا على فرعون وقومه متمثّلة في الجراد والقُمَّل والضفادع والدم وغيرها من الآيات، وتصف لنا مآل تكذيبهم المنتهي بكونهم أُغرقوا فأُدخلوا نارًا، فإن المعنِيَّ مباشرة بهذه القصة هو من يقرؤها ويتدبّرها فيتخذها وسيلة للتذكُّر المؤثِّر في تغيير السلوك والمعتقَد، وفي إعادة بناء العقل والوعي الراشد الخاضع لجلال الله وعظمته المتمسك بالأذن الواعية ذات الوظيفة المزدوجة: (السمع والعقل) المنجية من عذاب الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك: 10].
إنها دعوة قرآنية صريحة لنراجع أنفسنا ونتوب إلى الله ونوقن أن ما يقع في العالم سواء قريبًا منا أو بعيدًا، إنما هي رسائل موجّهة لنا فهلّا تذكرنا وأبصرنا؟ اللهم تُب علينا لنتوب إليك.
الوقفة الثانية: البلاء سُنّة الله في خلقه:
لا شك أن أكثر القصص تكرارًا في القرآن الكريم قصة موسى -عليه السلام-، وقد ذُكرت في مواضع متعدّدة من كتاب الله؛ لما فيها من العبر والفوائد التي تجعل المتأمّل والمتدبّر فيها يعلم عظمة القرآن وبلاغة الإعجاز فيه؛ بالإضافة إلى ما فيه من بيان الحقّ، وإزهاق الباطل، وسنّة الله -سبحانه وتعالى- الماضية في ابتلاء خلقه بالشرّ والخير؛ لعلهم يرجعون وإلى ربهم يتضرعون.
فقصة الرجز في سورة الأعراف لا تنفك عن تنبيه المتلقي للقرآن إلى أن البلاء سُنّة الله في خلقه وأنها لا تتغيّر ولا تتبدّل، فالرجز النازل على الأقوام السابقة قد ينزل على أهل الأرض أو بعضهم في كلّ زمان ومكان، وقد تتكرّر نفس مضامين القصة وإنْ تغيَّرت أشكالها وأبطالها.
قال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 43، 44].
فإذا تقرّر أن البلاء قد لا ينجو منه إنسان كيفما كان حاله ومهما كان زمانه؛ فإن مِن أوجبِ الواجبات أن لا يأمن العبدُ مكرَ الله، وذلك ما قرّره القرآن الكريم قُبَيل آيات الرجز في سورة الأعراف، قال تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}[الأعراف: 97-99].
وقد أحسن السعدي -رحمه الله- في تفسيره حين قال: «وهذه الآية الكريمة فيها من التخويف البليغ، على أن العبد لا ينبغي له أن يكون آمنًا على ما معه من الإيمان؛ بل لا يزال خائفًا وجِلًا أن يُبتلَى ببليّة تسلب ما معه من الإيمان، وأن لا يزال داعيًا بقوله: (يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك)، وأن يعمل ويسعى في كلّ سبب يخلصه من الشر عند وقوع الفتن، فإن العبد -ولو بلغت به الحال ما بلغت- فليس على يقين من السلامة»[6].
لقد سيطر على الناس الأمنُ من مكر الله فطغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، فلا غرو أن تتنزّل البلايا التي لا تصيب الذين ظلموا منّا خاصّة، اللهم إنّا نعوذ بك من أن نكون -بوعي أو بدونه- من المفسدين الآمنين مكرك، اللهم قِنا عذابَك يوم تَبعث عبادَك.
الوقفة الثالثة: الدعاء كاشف للبلاء:
لا شك أن البلايا وتنزُّلها على أهل الأرض مؤمنهم وكافرهم من سنّة الله في خلقه، وسنة اللهِ لا تحابي أحدًا، غير أنّ الناس يختلفون من حيث تعاملهم مع الضر النازل بهم؛ رضًا بقضاء الله أو اعتراضًا، دعاءً وتضرعًا أو تذمرًا وإعراضًا.
وبحسب تصرّف الإنسان يصير البلاء نعمة أو نقمة، نعمة للراضي بالقضاء المتوجه إلى الله بالدعاء، فيغفر اللهُ ذنبَه ويرفع درجاته فيكون خيرًا له، ونقمة للساخط المعاند المكابر فيهلكه اللهُ مهما أوَى إلى جبال أو أسباب مادية يحسبها وحدها تعصمه من الغرق في طوفان البلاء الدنيوي ونيران العذاب الأخروي.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أعجز الناس مَن عجز في الدعاء، وأبخل الناس مَن بخل بالسلام»[7]. فهل يعجز المؤمن السالك إلى ربه عن دعاء ربه وهو الفقير إليه، إنّ شعور الإنسان بالكفاية والغنى يوقعه في مرض الطغيان: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}[العلق: 6، 7].
ومن رحمة الله أن يُرسِل البلايا ليرجع الإنسان عن غـيّه وطغيانه، ويتخلى عن كلّ معبوداته من دون الله وينساها ولا يلجأ إلّا إلى الله كاشف البلاء وحده سبحانه، قال -عز وجل-: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}[الأنعام: 40، 41].
إنه لا ينفع الإنسانَ حين تَسَلُّطِ البلاء وشيوع البأساء إلّا الدعاءُ والتضرعُ والتودّد، لا الجحود والعصيان والتمرد؛ فإنه لا حول للإنسان ولا قوة إلّا بالله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام: 42، 43].
إنّ قوم موسى في آيات الأعراف أدركوا أنه لا منجا ولا ملجأ لهم إلّا بالتذلل لله لرفع الضر والطاعون، فطلبوا من موسى -عليه السلام- أن يقوم بالدعاء بدلًا عنهم لِما له من تعلُّقٍ بالله ورابطة العبودية له، بل لقد تيقنوا أن دعوته قد أصابتهم بسبب ظلمهم وطغيانهم، قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}[يونس: 88].
هذا، ولا ينبغي أن يفهم فاهمٌ أن الدعاء والتضرّع لله ينافي اتخاذ الأسباب، بل إن اتخاذ الأسباب مدعاة لاستجابة الدعاء، قال تعالى على لسان إبراهيم الخليل -عليه السلام-: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا}[مريم: 48، 49]، فربط المولى -سبحانه- بين اعتزال إبراهيم لمعبوداتهم وبين هبته له الذرية، ولم يربطها بالدعاء فقط؛ فالاستجابة مقترنة بالعمل والدعاء ولا تنفك عنهما، ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ.
الوقفة الرابعة: مشروعية الدعاء لغير المؤمن بكشف الوباء:
إذا كان من المعلوم أن الدعاء للكافر بالرحمة في الآخرة بعد تبيُّنِ موته على الكفر من المنهيّات عنها شرعًا، فإن الدعاءَ له بالهداية والصلاح وبرفع البلاء عنه وكشف الضر -ما لم يكن محاربًا- أمرٌ مشروع، وقوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ}[الأعراف: 134]، وقوله بعدها: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ}[الأعراف: 135]، يوحي أن موسى -عليه السلام- قد دعا اللهَ لهم فاستجاب له فكشف عنهم ما بهم من طاعون وعذاب.
وإنّما لجوؤهم إلى موسى -عليه السلام- ليدعو الله لهم لا يفيد أنهم آمنوا به رسولًا؛ ذلك أنهم قالوا: (ادع لنا ربك)، ولم يقولوا: (ربنا)، فهم لا يزالون على كفرهم، بل وصفوه بالسحر كما ورد في سورة الزخرف[8]، واشترطوا كَشْف البلاء كي يؤمنوا ويُذعِنوا ويهتدوا، فقالوا: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الأعراف: 134]، لكنهم يعلمون أنّ ما أصابهم من الوباء وما تنزّلَت عليهم من صنوف البلايا والعذاب سببها ليس له حلٌّ سوى التوسّلِ إلى موسى ليدعو الله لهم باعتبار ما له من علاقة قوية بربّه وأنه مجاب الدعوة. فقد قال الإمام البغوي: «قالوا لموسى: {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ}، أي: أَوْصَاكَ. وقال عطاءٌ: بِما نبَّأَكَ. وقيل: بِما عَهِدَ عندك من إجابةِ دعوتِك»[9].
وبيَّن ابن عطية الأندلسي في تفسيره أن «قولهم: {بِمَا عَهِدَ}، يريدون: بذِمامِكَ[10] وماتَّتِكَ[11] إليه، فهي تعمُّ جميع الوسائل بين الله وبين موسى من طاعةٍ من موسى ونعمةٍ من الله -تبارك وتعالى-، ويحتمل أن يكون ذلك منهم على جهة القَسَم على موسى، ويحتمل أن يكون المعنى: ادع لنا ربك ماتًّا إليه بما عَهِد إليك، ويحتمل -إنْ كان شعر أنّ بين الله تعالى وبين موسى في أمرِهم عهدًا ما- أن تكون الإشارة إليه، والأوّل أعَمُّ وألْزَمُ، والآخر يحتاج إلى رواية»[12].
نأخذ من هذا، أن الدعاء للإنسانية جمعاء بكشف البلاء والوباء مشروع للمسلمين، بل قد يكون سببًا في إسلام الكثير من الصادقين منهم؛ كما نستنبط منه أنه يُشْرَع للمسلم أن يبحث عن أهل التقوى وعمّن يتوسّم فيهم القرب من الله بطاعاتهم وأخلاقهم ويلتمس منهم الدعاء[13] لأمور الدنيا والآخرة؛ ذلك أن العبد الموفَّق هو الذي يبحث عن كلّ السبل الموصلة إلى استجابة الدعاء له.
إنّ المسلم مدعوّ لتمتين عهده بالله ورابطته به؛ تقربًا وتذللًا وتزلفًا، مدعوّ لأن يتحاشى كلّ ما من شأنه أن يؤدي إلى أن تَبْرَأ منه ذمة الله، مدعوّ ليكون رحمة للعالمين لا نقمة، تخلُّقًا بأخلاق المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم. لا إله إلّا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
الوقفة الخامسة: موقف المؤمن بعد انكشاف البلاء:
سبق وأن أشرنا إلى أن القصص القرآني ليست غايته حكاية الوقائع الماضية دون أن تحمل منهجًا للمتلقي للكلام الرباني بنيّة التنفيذ؛ لذا فالمؤمن يسعى إلى استكشاف أسرار القرآن لتستنير دروب حياته وينجو في آخرته.
ومن أهمِّ ما يمكن التركيز عليه في واجبات المؤمن حين وقوع البلاء والوباء إلى أن يزول بفضل الله وقدرته، ما يأتي:
- عدم الاستعجال: إنّ قوله تعالى في الآيات المقصودة بالتدارس: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ}[الأعراف: 135]، يفيد أن استجابة الدعاء بكشف البلاء لها موعد يحدّده الله ويقرّره سبحانه؛ لذا كان من أهمِّ شروط الدعاء عدم الاستعجال.
- عدم نكث الوعد مع الله: فقوم موسى نكثوا ونقضوا عهدهم بعد أن انكشف البلاء، ومن الناس من يعاهد اللهَ على التوبة زمن البلاء لكنه سرعان ما ينسى عهده وينقضه، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[يونس: 12].
- عدم التكذيب بآيات الله: لقوله تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}[الأعراف: 136]، والتكذيب بالآيات قد يكون بنسبتها إلى غير الله، كأَنْ يربط العذاب أو الوباء بأمور مادية طبيعية حسيّة صحيّة في معزل عن التصديق واليقين أن الله هو الذي يتصرّف فيها عطاءً ومنعًا، إنزالًا ورَفعًا. وقد يكون بربط كشف البلاء بالتطوّر العلمي والطبي في غفلة عن كون الله -سبحانه وتعالى- هو الموفِّق للإنسان في مجال الطب والبحث العلمي، قال تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[الزمر: 49، 50].
- عدم الغفلة عن الله وآياته ونسيان فضله ونعمه: قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ}[الزمر: 8].
لقد آنَ الأوان لنتوب إلى الله توبة جماعية عاجلة دائمة؛ امتثالًا لقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النور: 31]، ونتعاون على البر والتقوى مبتعدين عن الإثم والعدوان، عسى أن يصرف اللهُ عنا البلاء في الدنيا، وينقذنا من الخسران في الآخرة.
خاتمة:
جاءت آيات القرآن حريصةً على أن تربط العبدَ بربه في السرّاء والضرّاء، وأن تؤكّد له أن اللهَ وحده بيده المرض والشفاء، وأن الأسباب إنما هي من الله وأمره، ونتائجها بقدَر الله وعلمه، فلا يعتمِدِ الناسُ الأسبابَ المادية وحدها، ولا يتواكلوا ويبعدوا عن اتخاذها، بل عليهم أن يتداووا ويبذلوا جهدهم في سبيل ذلك، ثم يتوكلوا على الله ويرجُوه؛ وأن الدعاء من الأسباب الكاشفة للبلاء، وأن الإحجام عنه مانع للعطاء، وأن المؤمن يدعو بالخير لنفسه وللأمة وللإنسانية جمعاء.
وحذَّر القرآنُ من الاستعجال وإلّا حَلَّ بالداعي السوء والوبال، وبيَّن أنّ نقض العهد ليس من شِيَم العقلاء، ونسيانَ فضل الله لا يقع فيه الحكماء الفضلاء. وأن المؤمن المقبل على ربه يدعوه في الرخاء قبل البلاء. ويستقيم على أمر الله قبل الدعاء ومعه وبعده، فقد قال تعالى لموسى وأخيه هارون -عليهما السلام-: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[يونس: 89].
ونسأل الله تعالى متضرّعين أن يرفع عنّا وعن الناس شرّ هذا الوباء، ويرزقنا التوبةَ والاستقامةَ على الشريعة الغرّاء، فهو أهل المنة والجود والعطاء. والحمد لله رب العالمين في السراء والضراء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
[1] معالم التنزيل في تفسير القرآن، الحسين البغوي، المحقّق: عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الأولى، 1420هـ، (2/ 179).
[2] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن السعدي، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى 1420هـ-2000م، ص297.
[3] موطأ الإمام مالك، مالك بن أنس، صححه ورقمه وخرج أحاديثه وعلق عليه: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان، عام النشر: 1406هـ-1985م، باب ما جاء في الطاعون، (2/ 896).
[4] الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله القرطبي (المتوفى: 671هـ)، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ-1964م، (7/ 271).
[5] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، أبو عمر يوسف بن عبد البر، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي، محمد عبد الكبير البكري، الناشر: وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية – المغرب، عام النشر: 1387هـ، (12/ 258).
[6] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، السعدي، ص298.
[7] المعجم الأوسط، أبو القاسم الطبراني، المحقق: طارق بن عوض الله بن محمد، وعبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، الناشر: دار الحرمين – القاهرة، (5/ 371)، رقمه: 5591.
[8] قال تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ}[الزخرف: 49].
[9] معالم التنزيل في تفسير القرآن، البغوي، (2/ 225).
[10] «ذِمامك: جمع ذِمَّة، والذِّمة: العَهد، وَجَمعهَا: ذِمَمٌ وذِمامٌ». انظر: تهذيب اللغة، محمد الأزهري الهروي (المتوفى: 370هـ)، المحقق: محمد عوض مرعب، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الأولى، 2001م، (14/299).
[11] «المَتّ: التوسل والتوصل بحرمة أو قرابة، أو غير ذلك. تقول: مَتَّ يمُتُّ متًّا، فهو ماتٌّ. والاسم: ماتَّةٌ، وجمعها: مَواتٌّ، بالتشديد فيهما». النهاية في غريب الحديث والأثر، مجد الدين ابن الأثير (المتوفى: 606هـ)، تحقيق: طاهر أحمد الزاوى – محمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية – بيروت، 1399هـ-1979م، (4/ 291)، (باب: متت).
[12] المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، أبو محمد بن عطية الأندلسي، المحقق: عبد السلام عبد الشافي محمد، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، 1422هـ، (2/ 445).
[13] قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أراد أحدكم سفرًا فليسلِّم على إخوانه، فإنهم يزيدونه بدعائهم إلى دعائه خيرًا». (المقصد العليّ في زوائد أبي يعلى الموصلي)، أبو الحسن الهيثمي (المتوفى: 807هـ)، تحقيق: سيد كسروي حسن، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، باب: طلب الدعاء عند السفر، (4/ 334)، رقمه: 1662.
وعن ابن عمر قال: جاء عمر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستأذن في العمرة، فقال: «يا أخي، ادع الله ولا تنسنا في صالح الدعاء». المقصد العليّ، باب: طلب الدعاء ممن يقدم مكة، (2/ 265)، رقمه: 606.