تدبر سورة الحديد

د. رقية العلواني

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمد الشاكرين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. حين تجفّ المآقي فلا تجود بدمعةٍ في جوف الليل من خشية الله، وحين يقسو القلب فينافس في قسوته وصلابته الحجر والحديد، حين تأخذنا الدنيا ببهرجتها الفارغة بعيداً عن مضمار السباق إلى الآخرة فنتخلّف عن السير حتى نغدو في آخر الرَكْب، تأتي هذه السورة العظيمة التي بين أيدينا لتنتشلنا من هذه الغفلة ومن هذه القسوة ومن ذاك الجفاء والبُعد عن الله عز وجل، إنها سورة الحديد.

تلك السورة التي حوت في آياتها بعض ما نزل في المدينة وبعض ما نزل في مكة.

محور السورة الأساس الذي تدور حوله كل الآيات من أولها إلى آخرها معالجة تلك القسوة التي تحدثنا عنها في البداية معالجة مظاهر القسوة في القلوب.

سورة الحديد هي دعوة من الله عز وجل تحبُّباً لعباده للعودة إليه، تحبُّباً من خالق كريم غني حميد ولكنه رؤوف بعباده رحيم، يفتح أبواب التوبة والرحمة لعباده، يدعوهم، يتحبَّب إليهم أنْ هلُّموا إلي مهما إبتعدت بكم الدروب ومهما إختلفت الأحوال ومهما قست القلوب بل ومهما وصل بها الحال إلى حدّ الموت والصلابة والجمود تبقى أبواب التوبة التي تفتح سورة الحديد مشرعة أمامنا جميعاً للعودة إلى الله عز وجل ذلاً وانكساراً بين يديه، خشوعاً وتسبيحاً، إذعاناً لأمره ليخرج المؤمن من نفسه وماله لله عزّ وجل وحده لا شريك له. ليخرج من كل ما يمتلك تضحية وبذلاً وعطاءً لربٍّ كريم يرجو أن يجد عنده سبحانه وتعالى كل ما ترك من متاع الدنيا الزائل الذي في نهاية الأمر لن يأخذ معه من شيء. هذه السورة العظيمة حين تتغلغل بآياتها في داخل القلب لتسكن فيه يُضيء القلب، ينير للإنسان دربه في الحياة، في الواقع الذي يعيش، في المجتمع، في الأسرة، في كل من حوله ليصبح هذا الإنسان المتحرِّك بأمر الله سبحانه وتعالى تسبيحاً وإذعاناً وخشوعاً لأمره وتنفيذاً لما جاء في هذه السورة مصدر نور وإشعاع لكل من حوله. كل من يقترب من هذا الإنسان المؤمن يصيبه من ذاك النور شيء، يصيبه من ذلك الغيث شيء، يصيبه من ذلك الخير الذي يفيض والعطاء الذي يشعّ من قلبه وروحه بشيء. هذه السورة العظيمة تواصل بآياتها العظيمة النور وزرع النور وغرس النور في قلب المؤمن ليعود تلك الرحلة من رحلة القسوة والبعد عن الله عز وجل ليعود إلى خالقه من جديد فيبقى ذلك النور متواصلاً معه في مسيرته ودربه في الحياة ولا يفارقه أبداً ولا حتى بعد الممات ولا حتى في عَرَصات يوم القيامة ولا حتى في مقام الصراط، تلك المواقف العظيمة المهولة التي تأخذ بالألباب وبالعقول.

يبقى النور مصاحباً لذلك المؤمن ليسعى بين يديه ويسعى من خلفه وعن أيمانهم وعن شمائلهم ليجعل كل من حوله يطمع في أن يصل إليه شيء من ذلك النور. سورة الحديد العظيمة تعالج مرض قسوة القلب، تصلُّب الشرايين، تلبُّد الإيمان فيه، تكلُّس معاني الخشوع والخضوع والإذعان لله عز وجل في شرايينه بأساليب متعددة، أساليب متنوعة، ولتؤكد على أن هذا المرض الخطير، مرض القسوة، الذي يبدأ بغفلة غفلة بسيطة تزداد شيئاً فشيئاً شيئاً فشيئاً حتى تسدّ على القلب منافذ الإدراك فيه فتتركه صلداً صلباً قد يقع صاحبه ليس فقط في الغفلة وإنما في داء النفاق الذي أدّى بالخروج إلى أمم سابقة من أهل الكتاب إلى الوقوع في الفسق والخروج عن أوامر الله عز وجل. ولكن دعونا قبل أن نخوض في تفاصيل وآيات السورة العظيمة نعود من جديد إلى محورها.

كيف يعود القلب إلى خالقه سبحانه؟

كيف يخرج ذلك القلب الصلب الذي عَلَتْه القسوة والحيرة والغفلة والبُعد عن الله عز وجل من الظلمات إلى النور؟ من القسوة إلى الخشوع واللين، من البخل والشُحّ إلى البذل والعطاء، من الإختيال والفخر الواهم إلى التواضع والسكون والتضرّع والإنكسار بين يدي خالقه سبحانه، من الركود والركون والسلبية والعُزلة عن الناس إلى الواقع ليعالج ويصحِّح ويصبح مصدر نور وإشعاع لكل من حوله، ليُحِقّ الحقّ في الواقع ويُبطِل الباطل ويُحقِّق دعوة الأنبياء والرسل نُصرةً لمبادئهم وقِيَمِهم في كل من حوله وفي كل ما حوله ليصبح هذا الإنسان المؤمن وذاك القلب في معيّة الله عز وجل، تلك المعيّة الخاصة. كيف يمكن أن تتحول هذه المعاني بمجرد أن أتدبر آيات هذه السورة العظيمة؟

كيف يمكن أن يتحول ذلك القلب الصلب إلى قلب مؤمن يشع نوراً وعطاءً ورحمة وسكينة في ذاته وفي كل من حوله. دعونا نبدأ ببداية السورة العظيمة أول خطوة على ذلك الطريق ليعود القلب من جديد إلى خالقه يعيد عبادة من أعظم العبادت عبادة التسبيح وتدبروا معي ابتدأت السورة بقوله عز وجل (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ثم بدأت.

التسبيح هنا ليس مجرد أن أقول “سبحان الله” بلساني وإن كان ذلك جزء منها ولكنه تسبيح يجتذب القلب من نواحي الغفلة التي قد علته إلى عالم جديد، يصبح ذلك القلب الغافل مُسَبِّحاً مع كل من حوله، كل شيء من حولنا يسبِّح الله عز وجل.

ثم تأتي الآيات بأسماء وصفات عظيمة من أسماء الله سبحانه وتعالى عزيز قوي لا يُغلَب، حكيم في أمره ومشيئه (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وهنا تبدأ المفاهيم يبدأ القلب حين يستحضر ويقف مع الآيات كلمة كلمة يبدأ القلب يعود من مرحلة ورحلة الغفلة والقسوة والبُعد عن الله عز وجل.

أنا حين يقسو قلبي أو أغفل عن الله عز وجل أغفل عنه لأجل مَنْ؟ أغفل عنه كيف ولماذا؟ وماذا وبماذا؟ وهو سبحانه (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). ماذا أريد حين أغفل؟ وستأتي السورة كما سنأتي عليها بتسلسل رائع معجز عجيب للوقوف على أسباب ذلك الداء، لماذا يتصلب القلب؟ لماذا يغفل عن ذكر الله؟ لماذا يقسو ذلك القلب؟ ويحلِّلها بتحليل من أعظم وأكثر الآيات والسور اعجازاً في كتاب الله وكل آيات ربي معجزة سبحانه وتعالى. (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) إن أردت شيئاً، مالاً، متاعاً من متاع الدنيا الزائل أو من عطاء الآخرة الباقي الذي لا يزول ولا يتغير ولا يتبدل ستجد كل ما تبحث عنه عند من؟ عنده سبحانه وتعالى الذي (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).

هل ما تطمح إليه وتتشوق نفسك إليه هل يخرج عن ملك السماوات والأرض شيء؟ مستحيل، ثم إنه سبحانه (يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ (4)) قدرة مطلقة. (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا) كل شيء، علم مُطلق، علم دقيق. (وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا) وتأملوا معي نهاية الآية الرابعة (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). ثم تعود من جديد (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)، (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) وتدبروا معي كم مرة ذُكِرت مسألة العلم، لماذا؟ ربي سبحانه وتعالى في هذه الآيات العظيمة الست آيات الأولى يكرس في نفس ذلك القلب الغافل أن الله سبحانه محيط بكل شيء، علمه بتصرفاتنا، بأفعالنا، بغفلتنا، بعودتنا، بكل شيء علم دقيق يحصي علينا كل شيء.

القلب حين يغفل مجرد غفلة شعور ربما اللسان يتحرك بذكر الله ولكن القلب لاهي، القلب غافل، ربما أقرأ وأتلوا آيات الكتاب، ربما أقف بين يدي الله عز وجل في الصلاة ولكن القلب غافل ساهي في وادي آخر من وديان الدنيا من الذي يعلم بكل هذا؟ من الذي يعلم بسكنات ذلك القلب؟ من الذي يدري بخلجات النفوس؟ الله سبحانه.

ولذلك تأملوا كم مرة جاءت في الآيات (وهو بكل شيء عليم) (بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) آيات توقِظ فيَّ مراقبة الله عز وجل.

ثم تلك الآية العظيمة (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ومعية الله عز وجل على نوعين:

المعية الأولى معية عامة فهو سبحانه مع عباده بما يليق بجلاله بعلمه وبإحاطته واطلاعه ومراقبته لأعمالهم ومشاعرهم وخلجات نفوسهم وخواطرهم وما يحدثون به أنفسهم ليلاً أو نهاراً في كل شيء هذه هي المعية العامة.

المعية الثانية هي معية خاصة معيّة الله مع عباده توفيقاً وتأييداً ونصرة لهم. والنوعين المعية الأول المعية العامة والمعية الخاصة كلا النوعين قد جاء ذكرهما في هذه السورة ولكن العظيم أن المعية الخاصة معية الله عز وجل لعباده نصرة وتأييداً وحفظاً كما جاء على لسان النبي صلى الله عليه وسلم يوم أن قال لصاحبه: “لا تحزن إن الله معنا” معية خاصة تأييد حفظ توفيق نصر فتح من الله عز وجل معية خاصة لا ينالها المؤمن وقطعاً لا ينالها، بعيدة عن منال القلب الغافل القاسي الذي اختط” طريقاً ودرباً له بعيداً عن خالقه سبحانه، يُحرَم من هذه المعية ولا يمكن أن ترجع وتعود المعية الخاصة لهذا العبد إلا إذا إستشعر واستحضر وعاش المعيّة العامة بمعنى آخر أن السورة منذ بداياتها بدأت توقظ القلب، تشعره بأي شيء؟ أن انتبه عليك أن تدرك تماماً أن الله معك معية عامة مطلع على أفعالك (بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). هذه حالة اليقظة التي تبدأ بها سورة الحديد توقظ النفوس توقظ القلوب تعيد القلوب من جديد التي كانت بعيدة عن خالقها تعيدها من جديد إلى خالقها كيف تعود؟

أول ناحية بعبادة التسبيح وليس كأي” تسبيح وإنما تسبيح يعيد الأمور إلى نصابها، تسبيح يعيد القلب البعيد عن الله عزّ وجل الصلد القاسي يعيده من جديد إلى خالقه.

حين تُسبِّح الله استحضر أن الله سبحانه مُطّلع على ما في قلبك، وإذا كان ربي مطلع فماذا أفعل؟ على أن أنزه القلب وأطهر القلب على أن أستشعر وأنا أقول سبحان الله عظمة الله عز وجل في خلقه أستحضر المعاني والأسماء العظيمة الحسنى التي جاء ذكرها في بدايات السورة (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) لا يدين قلبي باستشعار بملك أحد من الناس مهما بلغ ملكه ومهما بلغ جاهه ومهما بلغت قوته أنه يملك من الأمر شيئاً، لا يملك ولا شيء الملك الحق لله الواحد الأحد. ثم جاءت (يُحْيِي وَيُمِيتُ) أنا ما أبحث عنه في حياتي مهما بلغت قوة من انشغلت بهم عن الله سبحانه هل يملكون لي حياة؟ هل يملكون لي إماتة؟ هل يملكون لي نفساً من أنفاس الحياة حتى أُشغَل بهم عن الله سبحانه حتى أذهب معهم بعيداً عن خالقي سبحانه وتعالى؟!

ثم من الذي يملك القدرة على الفعل؟ من الذي يملك القدرة على كل شيء؟ إذاً التسبيح لم يعد مجرد كلمات باللسان، التسبيح أصبح هنا عبادة قلبية وأعظم أنواع العبادات عبادات القلوب، تلك العبادات التي غفلنا عنها، تلك العبادات التي شُوِّهت صورة العبادات حين فرَّغنا العبادة من شكلها الحقيقي من شكلها في القلب لنجعلها مجرد مظاهر ومجرد طقوس وهي ليست كذلك. ولذا الإمام أحمد ابن حنبل رحمة الله عليه يقول: سيأتي زمان على الناس يصلّون فيه وهم لا يصلّون أقف بين يدي الله وأقرأ الفاتحة وأركع وأسجد وأفعل كل أعمال الصلاة الظاهرة التي أمرني بها الله سبحانه وتعالى ولكنها أعمال مفرّغة كالتسبيح تماماً عبادة من أعظم أنواع العبادات.

التسبيح من أعظم أنواع العبادات ولكن متى؟ حين يسبِّح القلب قبل أن يسبِّح اللسان قبل أن تتحرك الشفاه بكلمات التسبيح تستحضر معاني هذه الأسماء العظيمة تتعبد الله سبحانه بأسمائه: أول، آخر، ظاهر، باطن، بكل شيء عليم إذاً هذه المرحلة الأولى.

ثم تنتقل بي سورة الحديد إنتقالة رائعة بعد أن بدأ القلب ينبض فيه شيئاً من أنفاس الحياة وكأن ما حدث ولله المثل الأعلى في بدايات السورة نوع من أنواع الصدمات الكهربائية التي يستخدمها الأطباء حين يريدون أن يحاولوا أن ينقذوا القلب في حالة الإنعاش القلب حين يبدأ في مفارقة الحياة، النهاية، يحاول الأطباء محاولة أخيرة في إنعاش ذلك القلب عن طريق الصدمات الكهربائية ولله المثل الأعلى.

القلب يموت وموت القلب الحقيقي حين يبتعد عن خالقه عز وجل فالآيات الست الأولى جاءت بمثابة هذا النوع من الإيقاظ لتلك القلوب لكي تعود ترتجّ من جديد. هنا يبدأ القلب حين يسبّح التسبيح الحقيقي الذي أشرنا إليه يبدأ القلب بالعودة شيئاً فشيئاً يبدأ النبض خفيفاً لتأتي الآية السابعة في سورة الحديد، النداء واضح (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) إذاً عرفت فالزم، عرفتَ أن هناك علاقة تربطك بخالقك وأن ما من شيء في الكون الذي تعيش فيه لا صغير ولا كبير ولا شجر ولا ورقة ولا أخضر ولا يابس ولا ملك ولا سيّد ولا عبد ولا أحد يخرج عن أمره سبحانه وبدأت بالتسبيح لخالقك والعودة إلى خالقك من جديد لا تقف مرحلة الإيمان عند هذا الحد، لا، لا بد أن تنتقل إلى مرحلة جديدة، ما هي هذه المرحلة؟

تحقيق مفهوم التسبيح والعودة لله عز وجل في واقع الحياة، (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) إيمان حقيقي إيمان صحيح أنه هو تصديق بالقلب ولكن تصدقه الجوارح في واقع الحياة تصدقه أفعالك تصدقه السلوك الذي تتعامل به مع الآخرين، الأخلاق، القيم، المبادئ، المثل التي تكون وراء حركتك في واقع الحياة ثم العجيب وفي نفس الآية أول ما تبدأ (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) بدأت الآيات بعد قضية الإيمان مباشرة بقضية الإنفاق ولماذا الإنفاق؟

الإنفاق تصديق لمعاني الإيمان التي تحدثنا عنها قبل قليل. آمنت بالله عز وجل، أدركت وأيقنت تماماً أن الله سبحانه وتعالى له ملك السماوات والأرض، أبدأ بالتطبيق، أبدأ بالبذل، أبدأ بالعطاء، أبدأ بتطبيق أوامر الله عز وجل كما جاءت في كتابه وأولها الإنفاق.

سورة الحديد هذه السورة العظيمة التي بين أيدينا واحد من أهم محاورها البذل والعطاء. المؤمن لا يمكن أن يكون بخيلاً، المؤمن لا يمكن أن يبخل بشيء على هذا الإيمان الذي قد توقّد في قلبه وفي نفسه يبذل كل شيء والبذل والإنفاق والعطاء هنا لا يختصّ بمال صحيح بعض الآيات ستأتي علينا محددة بموضوع المال ولكن أول آية من أيات رب العالمين قال فيها (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) كل ما نمتلكه، مواهب، جوارح، عين، يد، قدم، كل ما أمتلكه، كل ما وهبني إياه الله سبحانه وتعالى أنا مستخلف فيه هذه مجرد عارية.

ربي سبحانه وتعالى أنعم عليَّ بهذه النعم لينظر كيف أعمل لينظر كيف يكون إستخلافي وتحقيق مفهوم الخلافة على هذه الأرض. ربي سبحانه جعل الإنسان في مرحلة الحياة في رحلة الحياة التي نعيش جعله خليفة قال (إني جاعل في الأرض خليفة) وهذا الخليفة زوّده ربي سبحانه وتعالى بكل الطاقات بكل المواهب بكل الجوارح، لديك عين، لديك عينان، لديك يد، لديك قدم، لديك كل ما وهبك الله ماذا فعلت به؟ كيف حققت أوامر الله عز وجل ولذا جاءت نهاية الآية (فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) إيمان بدون إنفاق، إيمان بدون بذل، إيمان بدون تضحية، إيمان بدون عطاء هذا ليس بإيمان، هذا إيمان سيقودني كما ستأتي عليَّ الآيات في سورة الحديد إلى حتى الوقوع في مرحلة النفاق والعياذ بالله.

هذا إيمان لايمكن أن يحرك في ساكناً، هذا إيمان لا يمكن أن يحقق دعوة الأنبياء التي جاء التركيز عليها في هذه السورة العظيمة في أكثر من موضع. وتأملوا معي الآية التي تليها الآية كيف تبدأ سورة الحديد بمعالجة القلوب. اليوم حين نتحدث عن هذه القضية من أكثر ما يؤدي بنا من أكثر أسباب الغفلة والقسوة التي نعيش كلنا في بعض الأحيان يشتكي من قسوة القلوب كلنا يريد -أو هكذا يقول- يريد العودة إلى خالقه سبحانه ولكن كيف تكون العودة؟ كيف يكون طريق العودة؟ كيف تكون رحلة العودة؟

سورة الحديد تبين، أول آيات بينت أسباب هذا المرض (وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) تفصِّل الأسباب التي يمكن أن تحول بيني وبين العودة لخالقي سبحانه وتعالى. ما الذي يدعوني لعدم الإيمان بالله ورسوله؟ ما الذي يدعوني يا ترى لعدم تنفيذ الأوامر التي جاءت في هذه السورة العظيمة؟ جلسة صادقة مع النفس، ما الذي جعلني أبتعد عن الله عز وجل؟ ماذا ربحت حين ابتعدت عنه سبحانه؟ وماذا خسرت حين خسرت القرب منه سبحانه وتعالى؟ ويا سبحان الله العظيم الترابط بين آيات السورة كغيرها من سور القرآن -ونحن نعلم أن هذه من أعظم قواعد التدبر- كل آية تسلمني للآية التي تليها بعد أن إنتهت الآيات من التسبيح والإيمان والعودة لله عز وجل جاءت بالسبب الأول:

إجلس مع نفسك وسال نفسك سؤالاً مباشراً واضحاً (وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) ما الذي يُبعدك عن الله سبحانه وتعالى؟!. ثم تأتي (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) إذاً القرآن من أعظم أسباب معالجة قسوة القلب وغفلته وبُعده عن الله أن يكون لك حظ وعلاقة وطيدة مع كتاب الله عز وجل.

دون هذا القرآن لا يمكن أن تكون هناك رحلة عودة. إذاً هو القرآن من جديد، إذاً أنا أحتاج في حالة العودة ورحلة العودة لخالقي سبحانه وتعالى أن يكون القرآن معي في كل مرحلة، في كل وقت، في كل إنتقالة من مراحل طريق العودة لله عز وجل أحتاج إلى القرآن ولذا ربي عز وجل قال (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) لمَ يا رب؟ (لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) ودعونا نقف طويلاً لأن هذه الكلمات سيكون لها موقع ومواضع كثيرة في سورة الحديد “النور والظلمات”.

أنا أحتاج في حياتي وأنا أعود إلى خالقي سبحانه وتعالى إلى شيء يضيء لي الطريق، هَبْ أنك مشيت في طريق والطريق مظلم تريد أن تجد بصيص نور، أين ستجد النور؟ طريق الحياة الذي نمشي فيه اليوم المضاء بكل الأنوار الأنوار الصناعية، الأنوار التي صنعناها بأيدينا كبشر بحكم ما توصلنا إليه من وسائل حضارية مختلفة، هل تستطيع تلك الأضواء والمصابيح والأنوار المصطنعة أن تضيء الظلمة التي توجد في قلب الإنسان حين يبتعد عن خالقه؟! مستحيل. كم من المرات كانت الأضواء والمصابيح مُنارة ولكني أشعر أحياناً في ظلمة في نفسي، أشعر أن الأمور قد التبست عليّ، لا أعرف هل أذهب يمنة أم أذهب يساراً، لا أعرف أي طريق أختطّ في حياتي، الحيرة، الشك، هذه الأمراض التي تتولد عن قسوة القلب وبعده عن خالقه سبحانه وتعالى، القرآن.

القرآن الذي تأتي به سورة الحديد ليخرجكم من الظلمات إلى النور أنا بحاجة إلى نور في طريق العودة لله سبحانه وتعالى، أين النور؟ أين سأجد النور؟ النور في القرآن.

إذاً أول مصدر من مصادر النور الذي تبينه سورة الحديد وأنا أمشي معها خطوة خطوة وهي تأخذ بتلابيب قلبي المتصلِّب البعيد عن خالقه سبحانه وتعالى هو القرآن (ليخرجكم من الظلمات إلى النور) لا عودة حقيقية بدون القرآن العظيم، لا عودة بدون آيات الكتاب العظيم. وطِّد علاقتك مع القرآن الكريم، عُد إلى الله عز وجل تعبد بتلاوة آياته العظيمة، إفتح القرآن.

ولكن لا تفتح القرآن بيد فقط ولكن إفتح القرآن بقلبك لكي تدخل آيات هذا القرآن فتزيل الغشاوة والظلمة التي ربما تكون قد أحاطت به من كل جانب نتيجة لغفلته وبُعده عن الله عز وجل.

ثم تعود الآيات من جديد للحديث عن الإنفاق ومرة ثانية بنفس الطريقة التي بدأت فيها في الآية التي سبقت (وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ).

هذه المرة (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ما الذي يمنعك أن تنفق الغالي والرخيص في سبيل الله عز وجل؟! ما الذي يوقفك عن البذل والعطاء؟! واحدة من أعظم أسباب قسوة القلوب الشُحّ، البخل.

والبخل ليس فقط البخل بالمال البخل بالوقت البخل بالنفس، البخل بالمواهب التي وهبنا الله إياها، البخل بالأشياء بالجوارح التي أمتلك لديك عينان لديك أقدام لديك لدك لديك ماذا فعلت بها؟! كيف حققت دعوة الأنبياء على هذه الأرض من خلال استعمالك لتلك المواهب التي وهب ربي عز وجل وأنعم بها؟! وتأملوا معي قول الله عز وجل حين لا يُبقي لي عذراً أعتذر بين يديه، ليس هناك عذر، سورة الحديد تفصّل الأعذار فلا تبقي لي عذراً بين يدي الله سبحانه وتعالى.

(وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) كل شيء بيد الله وكل شيء من الله وسيؤول إلى الله سبحانه وتعالى، هذه الحقيقة الغائبة عن نفوسنا، المال ليس مالي المال ليس مالك، المال وديعة، المال عارية والمواهب الأخرى التي وهب ربي سبحانه إنما هي عارية ستُستردّ في يوم من الأيام سيأخذها مني ربي عز وجل لكن هناك فارق بين أن يأخذها ربي سبحانه وقد صرفتها وأنفقتها ليلاً ونهاراً بذلاً وعطاءً في دروب الخير، بذلاً وإنفاقاً في دروب الخير والدعوة ونصرة النبي ونصرة الأنبياء ونصرة الحق الذي آمنت به في صدري وحملته في قلبي لتتحول تلك النواحي من الإنفاق سواء كان إنفاقاً بالوقت أو إنفاقاً بجهد أو إنفاقاً بالصحة أو إنفاقاً بطعام أو إنفاقاً بشراب أو إنفاقاً بموهبة أو أي شيء من توظيف هذه المواهب في نصرة الحق الذي أؤمن به كلها ستتحول يوم القيامة إلى نور.

النور ينتظرني النور الذي أُنير لي في الدنيا ينتظرني هناك، ينتظرني عند الموت، ينتظرني عند الخروج من الدنيا، ينتظرني عند الصراط حين تصبح الظلمات ظلمات بعضها فوق بعض.

تحيط بي الظلمات فتأتي أنوار تلك الأعمال الصالحة لتُشرق وتُنير لي الدرب حتى يتطلّع ذلك المنافق لذلك النور العظيم، أعمالي، مواهبي.

ولذا إياك في يوم من الأيام أن تحدثك نفسك بأن تترك شيئاً ولا تنفقه في سبيل الله. الآية لم تترك لي عذراً ولذا جاءت (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ) طبعاً وإن كان لبعض هذه الآيات أسباب نزول متعلّقة بمن أنفق من الصحابة رضوان الله عليهم قبل الفتح وقت أن كان الإسلام لم يزل غضّاً طرياً في مكة، المسلمون في حينها كانوا في حالة ضعف لم يكونوا في حالة قوة مادية أو معنوية، من بذل وأعطى وأنفق وحال الإسلام تلك كأبي بكر الصديق رضي الله عنه، كعمر الفاروق، كغيرهم من الأصحاب ليس فقط ممن امتلكوا المال حتى بلال رضي الله عنه وأرضاه، حتى عبد الله ابن مسعود، حتى صهيب الرومي هؤلاء الذين كانوا من فئة العبيد والمستضعفين ما كانت لديهم أموال ينفقونها في سبيل الله كأبي بكر الصديق وغيره من الأغنياء، ولكن كان لديهم شيء أخر كان لديهم الحب والعطاء الرغبة والصدق مع الله عز وجل النُصح لهذا الدين ولذلك لا تحدثك نفسك وتقول بأنك لا تمتلك شيئاً تبذله في سبيل الإيمان وفي سبيل الحق، قطعاً أنت تمتلك الكثير.

ابذُل كل ما لديك، هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح مال وعطاء وصدق وثبات وغير هذا كل ما بذلوه هذا أعظم درجة عند الله لأن بعد ذلك حدث أن الإسلام قد أصبح في قوة ومنعة من كل النواحي مادية ومعنوية.

البذل والعطاء في حال القوة ليس كما هو البذل والعطاء في حال الضعف والعجز، وكذلك البذل والعطاء منا اليوم ونحن في حال إقبال الدنيا علينا ليس كالبذل والعطاء في حال إدبار الدنيا عنا.

أنت حين تُقبل على الله عز وجل وأنت في قمة قوتك لا مرض ولا تعب ولا إرهاق ولا عجز ولا ضعف ليس كما هو إقبالك في حال الشدة والمرض والعجز والضعف.

إذاً إغتنم الفرصة، إغتنم ما أعطاك الله من نعم، إغتنم تلك الأقدام القوية الصلبة التي تقف عليها، الآن أنت في حال قوة ما الذي يمنعك من الإقبال على الله؟ ما الذي يمنعك أن تسير بك هاتين القدمين؟ ما الذي يمنعك أن تسير بهما إلى الله؟ إقبالاً وبذلاً وعطاءً، ما الذي تنتظر؟ لماذا تفوّت عليك الفرص واحدةً تلو الأخرى؟

الآية لم تبقي شيئاً (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) مدار العمل مدار الإنفاق ليس هو الكمّ بل هو الكيف والنوع. ولذا بلال رضي الله عنه وأرضاه أنفق، عبد الله ابن مسعود أنفق، صهيب أنفق، وغيرهم وغيرهم من الضعفاء والمساكين والأغنياء.

هذا الدين وعلاقتي مع الله عز وجل يفتح كل أبواب العطاء كل ما يمكن أن تقدمه حتى لو كان جرّة قلم تكتب بها كلمة حق وتنصر بها الحق الذي تؤمن به، هذا بذل هذا عطاء.

ما الذي يزيد في درجة العطاء وأجره؟ الإيمان الذي تحمل، الرغبة في العطاء، الرغبة في رضى الله عز وجل والتقرب إليه، الشعور بالفقر والعجز والشعور بأن الله هو المتفضّل عليك حين تبذل وحين تقدم وحين تعطي. بمعنى آخر أنا حين أقدِّم الألف والألفين من الدنانير من متاع الدنيا ليس أنا من يتفضّل على الإسلام ولا على الدعوة، لا والله! إذا كان هذا الشعور وهذا الإحساس فالعمل هباءً منثوراً، إذاً ما الذي يجعل العمل يرتفع ويرتقي؟ إحساسي بأن الله سبحانه هو المتفضّل أولاً وأخيراً، هو المُنعِم إبتداءً هو الذي أعطى المال ليس مالي المال هو وديعة المال من عند الله، الموهبة من عند الله عز وجل، الكلمة من عند الله، الوقت من عند الله الصحة من عند الله، الشباب من عند الله عز وجل.

إذاً هو المُنعم أولاً وأنا حين أوظفها في عمل الخير والعطاء ونصرة الأنبياء ونصرة الدعوة التي أحمل في قلبي وفي حياتي إنما المتفضّل كذلك هو الله. لو شاء لقعد بي عن سلوكي في هذا الدرب، لو شاء لأبقى على قلبي غافلاً بعيداً عن خالقه سبحانه ولكنه عز وجل تداركني بلطفه وبرحمته سبحانه وتعالى. ثم تأتي الآيات لتبين لي نوعاً جديداً من أنواع البذل والعطاء سماه ربي “القرض” قال (مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) إحسانك إلى الآخرين، تلك اليد المفتوحة التي فتحت بالقلب قبل أن تُفتح بالعطاء، البذل لكل الناس لكل من يحتاج إليّ، وتأملوا معي الربط لأنه سيأتي الربط بعد قليل “النور”.

ينبغي ألا أنسى أبداً ذاك النور الموجود في الدنيا والأخرة النور الذي ينتظرني كل صدقة تقدمها بيدك بيمينك ولا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك هي نور، هي ليست مجرد حفنة من الأموال أو القروش أو الدنانير، هي حفنة من نور ستنير لك الدرب والطريق في الدنيا وفي الآخرة، سينتظرك النور وعلى قدر حظك من الإيمان واليقين بالله عز وجل وإقبالك عليه وأنت تنفق وتعطي وتقدِّم يكون حظك من النور.

ولنا أن نتوقف عند قضية القرض هنا، هَبْ أن أحداً من الأغنياء أغنياء الدنيا طلب منك أن تقرضه مالاً -ولله المثل الأعلى- كيف سيكون شعورك وإحساسك وهو يطلب منك القرض؟ غنيٌ من الأغنياء، كبير من كبار الدنيا ووجهائها طلب منك القرض، كيف سيكون شعورك؟ ألا تفرح؟ ألا تشعر بالزهو وعدم التفكير حتى ولو لثانية أن تمنع عنه العطاء؟ مجرد أن يطلب منك القرض تعتبره تشريفاً أليس كذلك؟ فما بالنا ولله المثل الأعلىـ رب السماوات والأرض الذي بيده ملك السماوات والأرض يطلب منك القرض، ألا تشعر بتشريف الله لك؟

إذاً كيف يمكن بعد كل هذه الدعوات المُحببة من خالقٍ يمتلك كل شيء بما فيه أنا وبما فيه كل ما أنا أمتلك، كيف يمكن أن أتوقف عن البذل والعطاء؟! كيف يمكن بعد كل تلك الدعوات أن أبخل بشيء أو أدخر لي شيئاً؟

وهنا يأتينا معنى تلك الوقفات الرائعة التي كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه يستشعرها وهو لم يترك شيئاً إلا وقد بذل، كل شيء يبذله لماذا؟ لأن المسألة قد إنتهت، الإدراك والتغلغل لمعاني البذل والعطاء قد بلغ مبلغه في القلب، غُرِس في القلب، القلب أصبح يريد أن يعطي ويخرج من كل شيء لله عز وجل لأنه يدرك تماماً ويؤمن بأن ما خرج منه وما خرج إليه إنما هو في نهاية الأمر سيعود إليه سيعود لخالقه سبحانه وتعالى الذي بيده كل شيء وهو على كل شيء قدير وهو قد وعد وربي إذا وعد وفّى.

وهنا في تلك الآية تحديداً يبدأ الحديث عن النور وليس بحديث بعيد، مباشرة بعد آيات الإنفاق (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ) المسألة ليست بعيدة، القلب الذي قد غفل عن الله عز وجل وابتعد وأخذته الحياة الدنيا بمشاغلها يوم القيامة ليس بيوم بعيد، (يوم ترى) ستراه عياناً المؤمنين والمؤمنات الذين قدّموا العمل الصالح الذين وظّفوا هذه الأيدي بما يرضي الله عز وجل أنفقوا بذلوا عطاءً كتابة دعاءً للآخرين، اليد، كم من الأعمال والأشياء نستطيع أن نفعلها باليد؟ حتى الأعمال المهنية، حتى الأشياء البسيطة، كل شيء أستطيع أن أفعله بهذه اليد، هذه اليد التي سيتحول العطاء فيها إلى نور (وبأيمانهم) وتحديداً (وبأيمانهم).

ونحتاج هنا أن نتوقف عن هذه القضية قضية الأيمان، اليد اليمين التي تُعطي وتبذل، كم من المرات أحتاج وأنا أبذل أن أذكر نفسي بالنور كل عمل خير تفعله بهذه اليد تخيل تماماً أن هذا العمل سيتحول إلى نور، وزيادة النور مرتبطة بقدر الايمان واليقين الذي أحمله في صدري وفي قلبي وانا أبذل واتحرك في العطاء. ثم تختم الآية وتقول (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وتقارن مقارنة واضحة بين قوم وصلت بهم قسوة القلوب التي تعالجها سورة الحديد إلى الحدّ الذي أوقعهم في النفاق والنفاق كما نعلم ليس على نوع واحد نفاق الإعتقاد فحسب، أن أؤمن إيماناً ظاهرياً ليس له محل ولا رصيد في القلب، الباطن خالي من الإيمان بالله، هذا نفاق الإعتقاد.

أما نفاق العمل وهذا نفاق كارثي بالدرجة الأولى نفاق تدخل فيه أعمال معينة ربما أقع في قضية كذب أثناء الحديث، لا أصدُق في كلامي مع الناس، لا أصدُق في وعودي مع الآخرين هذه خصلة من خصال النفاق. فالخصومة أثناء الخصومة ووقوع الخلاف مع الناس أقع في أقصى درجات الخصومة والفُجر بها، هذا نوع من أنواع النفاق هذه خصلة من خصال النفاق نفاق العمل الذي قطعاً إذا لم ينتبه إليه الإنسان سيوقعه في نفاق الإعتقاد الذي لن يصل به إلا إلى الظلمة والتخبط والحيرة. ولذا الآيات تنتقل بي إنتقالة عجيبة في موقف من مواقف يوم القيامة موقف الناس كلهم بحاجة إلى نور ينير الدرب، ينير الطريق، (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ) نور المؤمن وجلال الأعمال الصالحة التي قد قام بها وجمال تلك الأعمال وبهاء تلك الأعمال أصبح من الإشعاع إلى الدرجة التي تصل بالمنافق أن يتطلّع ويتشوّف ويشوّق ويطمع أن يأخذ منها ولو شيئاً من نورهم وإذا به في تلك المرحلة التي يحتاج فيها المنافق إلى النور يخفت ذلك النور ولا يستطيع أن يرى من نور المؤمنين شيئاً ولا يستضيء به بشيء ولذا جاءت الآية (فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) من جهة المؤمنين (وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ) فُصِل بين المؤمن والمنافق.

قسوة القلب الخطيرة التي تعالجها سورة الحديد إذا لم أنتبه إليها مبكراً ستقودني إلى أي شيء؟ إلى النفاق الذي يحول بيني وبين النور التي تتحدث عنه السورة. ولذلك جاءت الآية الرابعة عشر لتبين هذه الحقيقة (يُنَادُونَهُمْ) هناك حوار بين المنافقين وبين المؤمنين، لماذا؟ لأن قسوة القلب إذا لم تُعالَج مرض خطير يقود إلى النفاق علي أن أنتبه إليه (يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ) ألم نكن مع المؤمنين؟ ألم نكن معكم في صفوفكم؟ ألم نشارككم العيش؟ ألم نشارككم حتى في بعض الأعمال التي كنتم تقومون بها؟ (قَالُوا بَلَى) قضية خطيرة بالفعل المنافق قد يخرج مع المؤمن في عمل صالح المنافق قد ينفق المنافق قد يخرج حتى للجهاد أو للقتال وقد حدث فقد خرج المنافقون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن وفي غزوات عديدة، إذاً أين الإشكال؟ الإشكال (وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) إذاً هو القلب، القلب الذي حين يغفل عنه الإنسان قد يقوم الإنسان بالعمل ظاهرياً ولكن لأن القلب قد غفل عن المسألة تماماً مسألة الإقبال والإيمان واليقين بالله عز وجل وبما عنده أصبح العمل لا يساوي شيئاً.

ولذلك المنافق يأتي يوم القيامة يحسب أنه على شيء، بأعمال كبيرة أعمال كثيرة ولكنها لا تغني عنه شيئاً أبداً، ما الذي أذهب العمل؟ خلوّه من الإقبال على الله عز وجل، خلوّه من حظ الإيمان في القلب عمل القلب الحقيقي الصدق مع الله عز وجل. المنافق كان يعمل العمل ولكنه كان غافلاً عن خالقه سبحانه وتعالى ولذلك ختمت الآية بآية عظيمة (فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ) إنتهى الوقت! طلب منكم ربي الإنفاق في الدنيا، كنتم في متسع من الوقت، كنتم تستطيعون أن تبذلوا وتقدموا أي شيء لله عز وجل، فدية، افتدي نفسك. ولذلك المؤمن العاقل المؤمن الحكيم يدرك تماماً أن ما يبذله في الدنيا من من وقت من صحة من عمل من مال إنما هو يفتدي نفسه بأيّ شيء؟ من سوء العذاب أنا أقدم فدية أنا أفتدي نفسي أن أقدم شيئاً لله عز وجل فداء لنفسي، ألا تستحق نفسي الفداء؟! يعني هب أن أحداً من الناس في الدنيا طالبك بفدية وضع على رقبتك السيف أو السلاح وقال إفتدي نفسك إما أن تدفع هذا المبلغ من المال وإما أن تنتهي، خلاص تنتهي الحياة بالنسبة لك، ألا تفتدي نفسك؟! كم ستبذل من المال؟! ألا تبذل كل ما تمتلك فقط لأجل أن تنقذ نفسك؟ أن تنقذ روحك؟ هذه في الدنيا علماً بأننا موقنون تماماً بأننا عاجلاً أو آجلاً سنسلِّم الروح إلى بارئها وخالقها، فما بالك بالحياة الأزلية؟ ألا أفتدي نفسي من العذاب؟ ألا أفتدي وأبذل وأقدم كل ما أمتلك لأجل الله سبحانه؟

انظروا إلى السورة كيف تأخذ من نفسي كل نواحي الشحّ والبخل. ولذا جاءت الآية التي تليها هذه الآية العظيمة (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) هذه الآية العظيمة بعد كل الآيات التي قدمتها السورة العظيمة، ألم يحن الوقت؟ ألم يأتي الوقت بعد لكي تعود القلوب إلى خالقها؟ ألم يحن الوقت للمؤمنين في كل زمان -وإن كان ورد كما سنأتي عليها بعد قليل بعض الأسباب في نزول هذه الآية العظيمة- عتاب مُحبَّب من خالق رءوف رحيم يعاتب عباده، بأيّ شيء؟ ببعدهم عنه.

اُنظر إلى المفارقة العجيبة: ربٌ غنيٌ حميدٌ له ملك السماوات والأرض يعاتب عباده على بُعدهم عنه سبحانه وهو الغني وهم الفقراء إلى رحمته. جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: “ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربعُ سنين” هذا القول في قول من قال أن الآية مكية. عتاب من الله عز وجل لمن؟ لمن وقفوا بجانب الدعوة، لمن بذلوا الغالي والرخيص، عاتبهم على أي شيء؟ على نوع من أنواع قلّة الخشوع في بعض الأحيان التي يمكن أن تطرأ على المؤمن أو على الإنسان، ثم عند القرطبي يقول: يقول عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما: “إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن” هذا القول يفيد بأن الآية نزلت في المدينة، وسواء أكانت الآية قد نزلت في مكة أو نزلت في المدينة أو هي الآن تخاطبنا نحن المؤمنين في كل وقت وفي كل زمان الآية فيها عتاب واضح، عتاب لأيّ شيء؟ أنه لا بد أن يأتي الوقت الذي أحاسب فيه نفسي فتخشع جوارحي ويخشع قلبي لما نزل من الحق، لآيات القرآن.

والخشوع هنا ليس مجرد خشوع القلب أو تمتمة باللسان، ليس فقط خشوع لذكر الله، اُنظر إلى بقية الآية (وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) الخشوع خشوع إذعان، الخشوع خشوع تسليم، الخشوع خشوع تنفيذ لأوامر الله وآياته في واقع الحياة. ولذا جاءت المقارنة (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) ما الذي حدث مع الذين أوتوا الكتاب؟ الذين أوتوا الكتاب حوّلوا آيات الكتاب لمجرد تلاوة، لمجرد آيات تُتلى، لم يحققوها في واقع الحياة فكانت النتيجة أن عاقبهم الله بقسوة القلوب. كل من يبتعد عن تنفيذ أحكام وأوامر آيات الكتاب العظيم آيات القرآن في واقع الحياة ويحوّل القرآن لمجرد آيات تُتلى وتُقرأ ويحوّل الذِكر والتسبيح إلى مجرد تمتمة باللسان دون تنفيذ في الواقع، دون تغيير في السلوك، دون تطبيق لدعوة الأنبياء من حق وإحقاق حق وإزهاق لباطل، يعاقب بقسوة القلوب. ولذا ربي أنهى الآية بقوله (وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) ولم يترك سبحانه الرؤوف الرحيم بعباده لم يترك الباب مسدوداً أو مغلقاً أمام هؤلاء، أمام هؤلاء الذين إستبدت القسوة بقلوبهم لم يترك الباب مغلقاً، اُنظروا إلى الآية التي تليها (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يا سبحان الله العظيم! حتى وإن بلغت القسوة بقلبك ما بلغت ربما شارف على الموت اُنظروا إلى المقارنة، لا تيأس من رحمة الله ولا تقنط من رحمة الله.

(اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) والرب القادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء قلوبنا بعد غفلتها وقسوتها وموتها في ظاهر الحياة، ولكن كيف؟ بالعودة لما أمر به الله عز وجل لا بد أن تكون الخطوة منك أولاً أنت تشعر بمدى قسوة هذا القلب ومدى الحاجة إلى عودته لخالقه سبحانه وتعالى القرار بيدك بعد إرادة الله عز وجل أما باب الله عز وجل لا يُغلق، باب التوبة لا يغلق القرار لا يزال بيدك. تأملوا نفحات الرحمة في هذه الآية العظيمة تدبروا كيف يرحم ربي عز وجل عباده وهو الغني.

ربي غني عن عبادتي، غني عن عودتي لا تغني عنه شيئاً أبداً ولا تزيد في ملكه ولا تنقص عودتي أم عدم عودتي، أنا المستفيد الوحيد. ورغم كل ذلك ربي سبحانه يكرر الدعوة بعد الدعوة ليعود قلبي إليه من جديد، فما أعظمه من رب! وما أكرمه من رب! وما أرحمه من رب سبحانه وتعالى! (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ)

العزيز المفقود - الموقع الرسمي
Logo