التدبر في القرآن بين الحق الإلهي والواجب الإنساني

محمد إقبال عروي

الفكر الإسلامي المعاصر منهمك في صياغة برامجه الفكرية والاجتماعية، منكب على تنزيل آي القرآن على مختلف مرافق الحياة… إلا أن هذا الانكباب، وذلك الانهماك، ينبغي ألا يشغلا الفكر الإسلامي عن مجموعة من الأولويات، ونسق الأساسيات، وفي مقدمتها أن تظل قلوب المسلمين وعقولهم موصولة بكتاب الله، ناهلة من موارده العذبة، بواسطة التدبر في آياته ومعانيه.


نشير إلى هذا التنبيه، لأن المتأمل في واقع المسلمين اليوم يلاحظ أن علاقتهم بكتاب الله تشهد أزمة حقيقية، فهم إزاءه أصناف : 
– صنف يسعى إلى ممارسة مختلف التأويلات دون اعتبار منهجي أو معرفي للشروط اللغوية والمقامية للتفسير، فيخرج إلى الناس بنتائج منحرفة.
– وصنف توقف عن تدبر كلام الله، وادعى أنه ليس بمقدور البشر الوقوف على حقيقة نظمه، وسر مضامينه، واكتفوا، في المقابل، بترديد آياته وسوره، وهذا الموقف نجده مركوزا في نفوس كثير من المسلمين.
– وصنف فتح قلبه وعقله لتدبر القرآن، فاهتدى إلى بعض أسرار الذكر الحكيم، وعليه أن يواصل المسيرة، وينشر نتائج تدبره بين عموم الناس لتكون لفائدة عامة إن شاء الله، وليكون عملهم شاهدا على صدق الوصف الأول للقرآن، وبالتالي بيان إعجازه، إذ كان لا تنقضي عجائبه.(1)

وقد سبق « لابن تيمية» أن تأمل هذه العلاقة بين المسلمين وكتاب الله، فهداه تأمله إلى أن المسلمين ينقسمون في تدبرهم للقرآن إلى طوائف:

الأولى: قوم تركوا التعلم منه والنظر فيه والتدبر له إلى كلام غيره،( ونستطيع ترجمة هذا السلوك إلى ماله علاقة بالانحراف الفكري لدى بعض المفكرين المعاصرين).

الثانية: وبإزائهم قوم أقاموا حروفه وحفظوه، وتلوه من غير فقه فيه ولا فهم لمعانيه، وهم ظاهرية القراء والمحدثين ونحوهم، (وهذا الصنف يجد مشابها له في بعض قراء الأمة ووعاظها).

الثالثة: وبإزائهم قوم يتلونه ويسمعون قراءته من غير تحرك له ولا وجد فيه، ولا ذوق لحقائقه ومعانيه، وهم ظاهرية العباد.(2)

والواقع أن هاته الأصناف تمثل، بوعي أو بدون وعي، الموقف التطبيقي لهجر القرآن، الوارد في قوله تعالى: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا)، (3)

إذ يتمثل معنى الهجر في:
* هجر سماعه، والإيمان به، والإصغاء إليه.
* هجر العمل به، والوقوف عند حلاله وحرامه، وغن قرأه وآمن به.
* هجر تحكيمه، والتحاكم إليه في أصول الدين.
* هجر تدبره، وتفهمه، ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
* هجر التداوي به في جميع أمراض القلوب.

وكل هذا – يقول « ابن القيم» – داخل في قوله تعالى في الآية السابقة.(4)

والواقع أن الأزمة التاريخية تجاه القرآن، والتي رصدها « ابن تيمية»، تستمر إلى أيامنا هذه، وتزداد حدة مع انتشار الأمية والجهل، وغياب العلم والتعلم الحقيقين في ظل أوضاع تعليمية لا تقوى على تكوين الفرد المنشود في ظل المفاهيم القرآنية، حتى أصبح في مرتبة اليقين لدى عموم الناس أن القرآن صعب التفسير، أو أنه لا يجرؤ أحد على تفسيره.
والواقع أن هذه النظرة الخاطئة ظهرت بوادرها في العصور السابقة، حيث أخذ كثير من الناس يستدلون ببعض الأحاديث على منع التفسير، باعتباره ثمرة التدبر المباشر لكتاب الله، وعدم السماح به، وهو ما يعتبر وأدا حقيقيا لخلق التدبر في القرآن.
وقد انتقل هذا الإشكال إلى بيئة العلماء، فاهتم كثير منهم بدفع هذا التصور الخاطئ، واستأصلوا، بالتحليل الدقيق والفهم العميق، دابر هذا الفهم القاصر.
فالأحاديث الواردة في النهي عن التفسير، مثل قوله عليه السلام: « من قال في القرآن بغير علم، فليتبوأ مقعده من النار»، (5) وقوله: « من قال في القرآن بغير علم ، فأصاب فقد أخطأ»، (6) وقصة عمر بن الخطاب في سؤاله عن معنى «الأب» في قوله تعالى : ( وفاكهة وأبا)، (7) وقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:   
« لقد أدركت فقهاء المدينة، وإنهم ليعظمون القول في التفسير»(8)

فهذه الأحاديث والأقوال محمولة على تحرج أصحابها عن الكلام في التفسير بأمور ليس لهم بها علم، سواء من حيث النقل عن السلف، أو عقل مفهومها في حدود ما تسعف به اللغة: منطقا، ودلالة، وسياقا، أو رغبة في تبرئة النفس من مختلف النتائج السلبية المحتملة حين إصدار التفسير أو القول في آي القرآن ما من شأنه أن يحمل على التأويل، أو يستغل استغلالا يخدم المعتقدات والأهواء والآراء المنحرفة عن أصول الدين، ومقاصد الشريعة.

ودليلنا على أن تلك الأحاديث والأقوال محمولة على ذلك المحمل :

أ- تمسكا بخلق المسلم في الإعلان عن الحق الذي يعرفه، يتبين أنه كما يتعين على المسلم السكوت في حالة عدم العلم، يتعين، وبنفس القوة والحجة، القول فيما له به علم، مصدقا لقوله تعالى : (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه…)، (9) وقوله : (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)،(10) وخروجا من الحكم الذي تضمنه الحديث المروي من طرق: « من سئل عن علم فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار».(11)
ب- أفردت أمهات كتب الحديث بابا للتفسير(12) يستوعب تفسير الرسول (ص) للعديد من الآيات، وهذا يدل على أن الرسول عليه السلام بين للمسلمين معاني القرآن.
ج- ثبت أن الصحابة كانوا لا يتجاوزون الآيات العشر حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل(13)، وهذا يدل على أنهم كانوا يفسرون القرآن ويتدبرونه، كل حسب طاقته وقدرته.
د- يقول تعالى : (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليتدبروا آياته).(14) ومن المعلوم أن تدبر الكلام بدون فهم معانيه محال، والعادة، كما يقول ابن تيمية: « تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فن من العلم كالطب والحساب، ولا يستشرحونه، فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم».(15)
هـ- إن الأمر المتكرر بتدبر القرآن يأتي، بمنطوقه ومفهومه، دالا على الإطلاق، ولا حجة لمن يقيده بزمن معين، أو مكان معين، أو يجعله حكرا على أشخاص مخصوصين، ومن المعلوم «أن المطلق يجري على إطلاقه، والخطاب عام من يتأتى منه الفهم والاجتهاد في كل عصر وبيئة، وهذا العموم الزماني والمكاني والإنساني والعالمي من خصائص النص القرآني».(16)
و- إن هذا التراث الضخم من التفاسير الممتد عبر مختلف عصور الإسلام، هذا التراث الذي يتنوع بتنوع مشارب أصحابه ومناهجهم، والذي يضم التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي، والتفاسير التي غلب عليها طابع النحو واللغة والفقه والعقل والتصوف…هذا التراث شاهد على أن العلماء تدبروا كتاب الله، وعقلوا معانيه، وفسروه لعموم المسلمين.

– موارد ذكر التدبر في القرآن الكريم :

نورد، هنا، المواطن التي ذكر فيها لفظ التدبر في القرآن، بغية البحث عن دلالتها وإدراك معانيها.
لقد ذكر التدبر في أربع آيات، وهي:
(كتاب أنزلناه إليك مبارك ليتدبروا آياته، وليتذكروا أولوا الألباب) « سورة ص – الآية ك 29».
(أفلم يتدبروا القول، أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ) « سورة المومنون – الآية : 68».
(أفلا يتدبرون القرآن، أم على قلوب أقفالها) « سورة محمد، الآية : 24».
( أفلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) « سورة النساء – الآية : 82».

* تأمل في الآيات :
يهدي التدبر في الآيات السالفة إلى استخلاص لملحوظات الآتية :

أ- إن الخطاب في الآيات موجه لمختلف الفئات، كفارا ومنافقين ومؤمنين، وهذا يدل على أن الناس جميعهم مطالبون بالتدبر في كتاب الله، ومحاولة فهمه فهما سليما بعيدا عن موانع التدبر والفهم، عسى أن يهتدي الكافر إلى عين الحق، ويدرك المنافق سوء اضطرابه وفتنته، ويزداد المؤمن إيمانا بصدق رسالة القرآن.
وهذا العموم الذي يشمل المخاطبين يشاكله عموم يكتنف زمانهم ومكانهم، نلمس ذلك من خلال زمن نزول الآيات السابقة.
فمنها سورتان مكيتان، وهما : « ص، والمومنون»، وسورتان مدنيتان، وهما :«  محمد، والنساء».

ب- ورد التدبر في الآيات الأربع بصيغة الفعل المضارع دلالة على انه فعل يتعين على الإنسان القيام به، فلا يمكن تصور فعل التدبر إلا في سياق الفعل المتواصل، ولم يرد في القرآن ذكر التدبر في صيغة المصدر المجرد.

ج- تدل صيغة : « تفعل»التي ورد عليها فعل التدبر في الآيات على مشقة التكلف ومعاناته، كما تبرز بإيقاعها، معاني الإجهاد من أجل دفع الكسل والتقليد، وتمزيق حجب التقليد والهوى، التي تحول دون تدبر كتاب الله.

د- أشارت هذه الآيات إلى أهداف التدبر، فآية سورة«ص»تشير إلى أن التذكر هدف جوهري من وراء التخلق بخلق التدبر في القرآن، والتذكر يسوق صاحبه إلى التخلي عن المعاصي الفكر كالكفر والإلحاد، والشرك، ومعاصي السلوك كالظلم والكبر، والفسق، والتذكر ملازم للتفكر، بل بينهما علاقة تأثر وتأثير.
يقول الفيروز آبادي: « والتذكر والتفكر منزلان يثمران أنواع المعارف، وحقائق الإيمان، والإحسان، فالعارف لا يزال يعود تفكره على تدكره، وتذكره على تفكره حتى يفتح قفل قلبه بإذن الفتاح العليم».(17)

هـ- كما أشارت تلك الآية إلى شروط التدبر، وهي أن يكون لب الإنسان متيقظا متنبها، فأولوا الألباب هم أصحاب العقول والأفئدة التي قادها أصحابها إلى التبصر في كتاب الله المتلو، وهو القرآن، وفي كتاب الله المجلو وهو الكون، في كلام الله وفعل الله… فكانت لهم بصيرة صدق يعرفون بها الحق فيهتدون.
يقول ابن القيم : « المراد به، أي اللب، القلب الحي، الذي يعقل عن الله، و« يوجه» سمعه، و« يصغي» حاسة سمعه إلى ما يقال له، وهذا شرط التأثر بالكلام».(18)

و- وأشارت الآيات إلى موانع التدبر، ومنها التقليد الذي يدل عليه قوله تعالى : (أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين).

إن القرآن يستنكر هنا، موقف الكفار، ويسأل عن سبب امتناعهم عن تدبر كتاب الله. ويرجع أن يكون إتباعهم لآراء آبائهم، وجمودهم على تقاليد أسلافهم ومعتقداتهم سببا في تفويتهم لخير التدبر وفضائله العظيمة، إذ التقليد « تعطيل للمواهب، لأنه مجرد محاكاة عمياء، وفي ذلك قضاء على الذاتية، والأصالة، والشخصية العلمية».(19)
وفي لفظ « الأقفال»، الوارد في قوله تعالى (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)،إشارة إلى موانع التدبر، إذ فسرت « الأقفال» بـ « ارتجاج القلب، وخلوه عن الإيمان، أي لا يدخل قلوبهم الإيمان، ولا يخرج منها الكفر».(20)
وبهذا تكون الأقفال هي حجب الكفر.
وهناك من فسرها بقوله: « ترك القلب على ما فيه»،(21) ولا يخرج ما في القلب عن كفر صاد لصاحبه، أو شك محدث لاضطراب القلب والنفس، أو نفاق حاجب عن النظر السليم، والتدبر الحكيم، أو فسق تنكث يسببه الذنوب في قلب صاحبه مثل النقط السود حتى يرين عليه، وذلك هو الران المذكور في قوله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)، (22) وهو مراد الرسول عليه السلام في قولـــــــــه: « إن المؤمن إذا أذنب كانت نكثة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه، ذاك الرين الذي ذكر الله عز وجل في القرآن».(23)

فالذنوب حين تغلب على القلوب تغمرها وتحيط بها حتى لا يجد القلب منفذا إلى الشعور بالتدبر أو الاتصاف به، أو « حتى يعمى القلب» كما يقول الحسن، (24) أو « يموت»كما يقول قتادة.(25)
ولذلك صار من المعلوم لدى علماء الأمة، – حتى ولو لم يعتبر دعاة الفكر والثقافة – أن الذنوب والمعاصي والأهواء مانعة لصاحبها من فهم كلام الله، وتدبر معانيه.

يقول الزركشي: «إعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي، ولا يظهر له أسراره وفي قلبه بدعة، أو كبر، أو هوى، أو حب الدنيا، أو هو مصر على ذنب، أو غير متحقق بالإيمان».(26)

وينبغي لمثل هذا الكلام أن يدخل في صميم اهتمامات الفكر الإسلامي المعاصر، بغض النظر عن طابعه التربوي والأخلاقي العام، إذ ليس بالفكر والمنطق وحده يحيى الناس.

ز- وأشارت الآيات على موضوع دقيق من موضوعات التدبر، وذلك بأن قدمت للمنكرين، وللمؤمنين من باب أولى، مثالا حيا يصلح أن يكون مجالا خصبا للتدبر، أو نموذجا يفتح الطريق لتوسيع قياسات المتدبرين، وإلحاق القضايا بنظائرها بغية الوصول إلى يقين الحق في أمر القرآن: مصدرا، وطبيعة، وإعجازا، ويتجلى ذلك المثل الحي في دعوة المخاطبين إلى تدبر القرآن : نظما، ودلالة للوصول إلى أن الاختلاف منفي عن كلام الله، ومادام منفيا، دل ذلك على أنه من عند الله العليم الخبير.
يقول تعالى : (أفلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا).
إن هذا التدبر الذي « يقصد منه البحث عن الحقيقة، والمقرون بالإخلاص في الوصول إليها سوف يكشف لذوي الاستعداد منهم أن هذا القرآن حق كله، وأنه منزل من عند الله عز وجل، ما في ذلك ريب، لأنه لو كان من عند غير الله لاشتمل على اختلاف كثير في الواقع والحقيقة».(27)

ويتعلق الاختلاف المنفي عن القرآن، هنا، بالجوانب الآتية:
– اختلاف نظمه.
– اختلاف عقائده وأخباره الغيبية.
-اختلاف أخلاقه وتشريعاته.

يشرح الزمخشري أبعاد نفي الاختلاف الأول عن القرآن فيقول : (لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) لكان الكثير منه مختلفا متناقضا قد تفاوت نظمه، وبلاغته، ومعانيه، فكان بعضه بالغا حد الإعجاز، وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته، وبعضه إخبارا بغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه إخبارا عنه مخالفا للمخبر عنه، وبعضه دالا على معنى صحيح عند علماء المعاني، وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم، فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائقة لقوى البلغاء، وتناصر صحة معان وصدق إخبار، علم أنه ليس إلا من عند قادر على ما لا يقدر عليه غيره، عالم بما لا يعلمه أحد سواه».(28)
وإذا كان الزمخشري، باهتمامه البلاغي، قد توسع في نفي الاختلاف في مستواه البياني، فإن «سيد قطب» يستصحب معه هذا البعد في إبراز نفي الاختلاف في مستوى البيان الفكري والتشريعي، ليؤكد دلالة الإعجاز القرآني، فإذا كان الفارق بين الصنعة الله وصنعة الإنسان واضحا كل الوضوح في جانب التعبير اللفظي والأداء الفني، فإنه أوضح من ذلك في جانب التفكير، والتنظيم، والتشريع، فما من نظرية بشرية، وما من مذهب بشري، إلا وهو يحمل الطابع البشري، جزئية النظر والرؤية… والتأثر الوقتي بالمشكلات الوقتية، وعدم رؤية المتناقضات في النظرية، أو المذهب، أو الخطة التي تؤدي إلى الاصطدام بين مكوناتها، إن عاجلا، وإن آجلا، كما تؤدي إلى إبداء بعض الخصائص في الشخصية البشرية الواحدة التي لن يحسب حساب بعضها… إلى عشرات ومئات النقائض والاختلاف».(29)

على أن هذا الاختلاف المنفي عن القرآن، بنص القرآن، المدعوم بالممارسة العقلية والنظر المتواصل، لا يتعلق بمستوى واحد، بل يمتد إلى مختلف المستويات والمجالات، وما هو إلا نموذج واحد لما ينبغي أن ينصب عليه التدبر في القرآن، أو هو رسم لملمح واحد من ملامح موضوعات التدبر.

ح – وفي جانب آخر جد دقيق، أشارت الآيات إلى الفهم الخاطئ لقدر الله، إذ ينسب قوم أمر انحرافهم، وانغلاق قلوبهم عن أنوار الهداية، ومشكاة التدبر إلى مشيئة الله، يظهر ذلك في قوله تعالى : (أم على قلوب أقفالها).
حقيقة أن بعض المفسرين توقف عبد جانب من أسرار تنكير لفظ القلوب في الآية السالفة. فقد ذهب الإمام القرطبي إلى أنه «لو قال على قلوبهم لم يدخل قلب غيرهم في هذه الجملة، والمراد على قلوب  هؤلاء وقلوب من كانوا بهذه الصفة أقفالهـــــا».(30)
وأشار القاسمي في «محاسن التأويل» إلى أن «تنكير القلوب للإشعار بفرط جهالتها ونكرها، كأنها مبهمة منكورة».(31)
لكن مع هذه الملاحظ الدقيقة، نستطيع أن نلتفت إلى إبهام القلوب وتنكيرها، فيه- بالإضافة إلى ما سبق- دلالة على أن لا أحد من العباد قادر على أن يحكم على نفسه بانغلاق قلبه ونسبة الانغلاق إلى مشيئة الله، فالتنكير يرفع التعيين والتخصيص، ويقوي الإبهام والإطلاق، وتبقى للإنسان حريته الكاملة في فتح قلبه لأنوار التدبر، أو جعله مقفلا ومحجوبا عنها.

ومن ادعى أن الله تعالى شاء منه الصد والإعراض، كانت دعواه باطلة، بدليل هذه الآية، وبمقتضى عنصر التكليف الذي ينفي الحياة الإنسانية مظهر الجبرية والإرغام، مصداقا لقوله تعالى: (فمن شاء فليومن، ومن شاء فليكفر).(32)
إلا أن أفضال الله ورحمته تجاوزت عدله، فأودع في نفس الإنسان بذور حب الإيمان، وكراهية الكفر والضلال، وجعل تلك البذور موكوزة في فؤاده ووجدانه. (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم، وكره إليكم الكر والفسوق والعصيان).(33)

* مفهوم التدبر في القرآن:

التدبر في الآيات: التفكر فيها، وتأمل دلالتها.
وأصل التدبر: من دبر الأمر وتدبره، بمعنى: نظر في عاقبته، وعرف الأمر تدبرا، أي بآخره، وهذا يفهم من قول الشاعر جرير:
ولا تتقـــون الشر حتى يصيبكم
               ولا تعرفون الأمـــر إلا تدبرا(34)
وبهذا المعنى اللغوي وردت في القرآن ألفاظ من أسرة أصل الثلاثي «دبر» لفظ (الدابر) في قوله تعالى: (وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين)،(35) وقوله:(وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا، وما كانوا مومنين)،(36) مما يدل على أن «مادة الكلمة تدور حول أواخر الأمور وأدبارها».(37)

ومن ثم، فإن التدبر في القرآن، استنادا إلى المعنى اللغوي، لا يقتصر على مجرد التفكر والتأمل، به أنهما سلوكان محمودان، وإنما يتعين ممارسة التدبر عبر الالتفات إلى مآله وعاقبته، إذ لا يتعلق الأمر، مع القرآن، بمجرد التفكر والتأمل، بل إنهما يعتبران وسيلة إلى غاية كبرى، وهي التذكر، والعظمة- حينئذ- معاني «الترف العلمي والافتخار بتحصيل المعرفة، والتوصل إلى كشف المعاني للتعالي بمعرفتها واكتشافها».(38)
ويتوقف الزمخشري لإبراز حقيقة مآل التدبر في القرآن، والاتباطه بترجمة الفكر إلى سلوك عملي.
يقول: «وتدبر الآيات: التفكر فيها، والتأمل الذي يؤدي إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة، والمعاني الحسنة، لأن من اقتنع بظاهر المتلو لم يحل منه بكثير طائل، وكان مثله كمثل من له لقحة درور لا يحلبها، ومهرة نثور لا يستولدها».(39)

ونقل عن «الحسن» قوله: «قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم يتأويله، حفظوا حروفه، وضيعوا حدوده، حتى إن احدهم ليقول: «والله لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفا»، وقد – والله- أسقطه كله، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل، والله ما هؤلاء بالحكماء، ولا الورعة، لا كثر الله في الناس مثل هؤلاء.
اللهم اجعلنا من العلماء المتدبرين، وأعدنا من القرآن المتكبرين».(40)

* فضائل التدبر في القرآن:

للتدبر في القرآن فضائل كثيرة، إن لم تحط بها العبارة، فإن الميصف به يستشعر آثارها، وينعم بمنافعها الروحية والنفسية.
وهذه بعض فضائل التدبر نسوقها نماذج ومحطات، وإلا فإن فضل التدبر رقبه سائر الفضائل.

1) التدبر استجابة للأمر الإلهي وتطبيق لخلق إسلامي:
فالآيات السابقة تدل على وجوب أمر التدبر في القرآن، وإن نفيها صفة التدبر عم الكفار والمنافقين يبرهن، بطريق ااقتضاء واللزوم، على أن عدم التدبر خلق ذميم، وأن التدبر، في المقبل، خلق رفيع يحسن بالمسلمين أن يتصفوا به.

2) التدبر تكريم للإنسان، وحمل له على الشعور بهذا التكريم:
فلم يكن القرآن دعوة إلزامية يستقيل معها عقل الإنسان وتفكيره، وإنما دعي هذا العقل، وكررت الدعوة، بصيغ الترغيب والترهيب، إلى التدبر في كتاب الله طريقا وحيدا إلى الاقتناع والاستجابة، يشرك في ذلك مختلف طوائف المجتمع الإنساني.
يقول سيد قطب: «وهنا يعرض عليهم القرآن خطة، هي غايا ما يبلغه المنهج الرباني من تكريم الإنسان والعقل الإنساني، واحترام الكائن البشري وإدراكه الذي وبه له الخالق المنان… وفي هذا العرض، وهذا التوجيه منتهى الإكرام للإنسان وإدراكه وشخصيته».(41)

ونحن لا نضع بهذا الكلام والاستدلال لمؤثرات الفكر الغربي الذي آل: تنظيرا وتقنينا، إلى تكريم الحرية الفكرية عند الإنسان، حتى غدت بندا في مواثيق حقوق الإنسان، وإنما قول، على سبيل المقارنة: إذا كان الفكر الغربي يخطط لذلك التكريم باعتباره غايات ومرام وأهدافا يتعين بلوغها، والحفاظ عليها بقوة القانون، فإن القرآن جعل ذلك التكريم منطلقا لا غاية، وشتان بين تكريم يبقى غاية، وبين تكريم يتأسس منذ لحظة الانطلاق.
وتأتي آيات لتدبر لتذكر بهذا التكريم «المنطلقي» والمبدئي الذي لا يجوز إقحامه في دائرة «الإلغاء»، أو «التأجيل»، أو «حالة الطوارئ».

3- التدبر انتصار الممثل في القرآن:
إن من يمارس خلق التدبر في القرآن يقيم الحجة على نفسه، وبمل طبيعيا إلى معرفة الحق في القرآن، والاهتداء به إذا خلصت نيته، وصفا قلبه، وكان فؤاده في منأى عن الكم والهوى… وذلك أن ما جاء في القرآن لا يملك من تدبره أن يظل معرضا عنه، «ففيه من الجمال، وفيه من الكمال، وفيه من التناسق، وفيه من الجاذبية، وفيه من موافقة الفطرة، وفيه من الإيحاءات الوجدانية، وفيه من عظمة الاتجاه، وفيه من قويم المناهج، وفيه من محكم التشريع… وفيه من كل شيء ما يستجيش كل عناصر الفطرة ويغذيها، ويلبيها».(42)
إن الانحرافات الفكرية التي انساق إليها كثير من مفكري الأمة ليست في أحد مظاهرها، سوى تجل معرفي لغياب خلق التدبر في القرآن، أو خلطه بأوهام من الهوى، وأمشاج من التأويلات الإيديولوجية، ولا يمكن أن تدوم إلا بدوام موانع التدبر، فبقاؤها وانتشارها بين الناس لا يرجعان إلى قوة أركانها، وصلابة استدلالاتها، وبراهينها، وإنما يقومان على قواعد من غياب التدبر عند أولئك المفكرين، وعند المتلقين لأفكارهم، والمروجين لها، سواء بسواء.

وعلى مفكري الإسلام، إن اختاروا طريق دفع الشبهات، ودحض المطاعن، ألا يغيب من حسبانهم هذا البعد المنهجي، فمنه يقع الخلل، وبسببه يظهر الزلل، أما الاقتصار على جزئيات الدعاوي والشبهات، فيكاد يكون خداجا لا غناء عنده. وواهنا لا ثبات له.

4) التدبر زاجر عن المعاصي:
وأن من اختار طريق التدبر، لا يلبث أن تظهر على مشاعره أمارات التقدير والاعتبار لما هو منخرط فيه، ولابد أن ينشأ عن معاودته وارتياده لآفاق التدبر زاجر معنوي يمنعه من الارتكاس في المعاصي، معاص الفكر والسلوك، لأن ذلك الارتكاس،  بالإضافة إلى تناقضه مع أخلاق المتدربين، يمثل استهزاء عمليا بمقتضيات العلاقة التي نشأت بينه وبين كلام الله، ومخالفة سلوكية المقصدية الوصول إلى الحق الذي ابتغاه من تدبره في الذكر الحكيم.
وفي هذا المعنى يروى عن قتادة قوله: «إذن- والله- يجدوا في القرآن زتجرا عن معصية الله لو تدبروه».(43)
ومعصية الله لا تنحصر في نوع واحد، بل إنها تشمل معاصي الكفر والإعراض أولا، ومعاصي الكبر والهوى ثانا، وهذان الداءان أصل كل بلاء، إذ «شر العيوب ما كان مضمنا لعيوب، وشر الذنوب ما كان علة لذنوب».(44)
5) التدبر إحياء الرسالي لدى المسلم:
ليس مجازا من القول حين نصف المسلم بأنه «رسول» إلى نفسه، وإلى من حوله من الناس، وهؤلاء المسلمون يشكلون الأمة، «حاملة الرسالة الإسلامية» إلى البشرية جمعاء، ولن يتحقق هذا البعد في وجدان المسلم المعاصر إلا بالتدبر في كتاب الله، وتجاوز القراءة الوردية إلى النظر الطويل في الآيات، والتفكر في بعد مراميها.
ومن هنا، فقد كثر عند علمائنا دعوة المسلمين إلى استحضار هذا البعد الرسالي أثناء قراءة القرآن.
يقول ابن القيم: «إذا أردت الانتفاع بالقرآن، فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك. وأحضر حضور من يخاطبه من تكلم به سبحانه منه إليه، فإنه خطاب إليك على لسان رسوله».(45)
وهذه الالتفاتة نتذكر بها وصية الوالد إلى ابنه محمد إقبال، إذ قال له: «يا بني، إقرأ القرآن كأنه يتنزل عليك»، ولنا أن نتأسف على أحوال المسلمين، حين نحصي كم منهم تلقى هذه الوصية من أبيه!!!.
ومن خصائص إحياء هذا البعد لدى المسلم أنه يستوعب، ضمنيا، سائر الفضائل التي ذكرت سالفا، والتي ستذكر لاحقا.


6) التدبر حياة للقلب والجوارح:فيه تحيي القلوب وتخشى ربها، فتبذر فيها بذور المحبة والطاعة، وتكون الجوارح خاضعة لقلبه، أما نفسه فترتفع في ربيع الطمأنينة.
وليس بدعا أن يوصف القرآن بأنه ربيع القلوب، وذلك في الدعاء المأثور «اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا وهمومنا»
ومن المعلوم أن قلبنا حيا، وجوارح ممثثلة لشرع اله، خير من قلب ميت، وجوارح تغشى المحارم، وتقترف المعاصي، حتى يصير القلب كالكوز لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، أو كالأرض الجدباء التي لا تحافظ على الماء، ولا ترتوي منه.

7) التدبر تحد معرفي وعلمي للمخاطبين:
إن التدبر يستلزم الإحاطة بعلوم ومعارف منها: علوم اللغة، والبلاغة، وأسباب النزول، والسيرة، والفقه…
ومن هنا نستنتج بأن دعوة القرآن إلى خلق التدبر دعوة إلى تحصيل العلم النافع، والمعرفة العلمية الممارسة.
وإذا نظرنا إلى هذا البعد من زاوية الحالة التي آل إليها واقعنا المعاصر، حيث بلغ خطر الأمية مستوى لا يطاق، أدركنا، حينها، أن هذه الأمية بدعة لا عهد للمجتمع الإسلامي بها، إذ لا يعقل أن يكون المسلم مطالبا، دينيا، بخلق التدبر في كتاب الله، وفهمه فهما سليما، وتنزيله التنزيل السليم في واقعه الفردي والاجتماعي، ثم يكون أميا موصوفا بمعرفة الجهل، لا يدري ما الكتب؟ وما الكتابة؟ زم الإيمان؟ وما سلوك الإيمان؟
وعلى الذين يخططون في البلاد الإسلامية لمحو الأمية أن يستحضروا خلق التدبر في القرآن، وخلق القراءة في أول كلمة نزل بها الوحي، فهذان الخلقان يشكلان حوافز ذاتية للقضاء على دواء الأمية.

8) التدبر تنمية للوازع الديني:
يجمع القانونيون على أن مجموع القوانين التشريعية لا تقوى، بمفردها، على أن تغير المجتمع الإنساني في اتجاه العدالة والاستقرار، وإنما تحتاج إلى عنصر جوهري يسمى تارة بـ «الوازع الديني»، وأخرى بـ «الضمير»، وثالثة بـ «الحارس الداخلي»…
وهذا الإجماع من قبل فقهاء القانون يبرهن على أن المشكلة المعاصرة هي مشكلة الإنسان بالدرجة الأولى…
ومن شأن الاتصاف بخلق التدبر في القرآن أن ينمي في نفسية أصحابه هذا الوازع الديني، لأن التدبر يقول للإنسان: لا ينبغي أن يجدك الله حيث نهاك، ولا أن يفتقدك حيث أمرك.
وهذا الأمر مبني على ضرورة استحضار الشرط السابق المتمثل في استشعار المسؤولية الفردية في خطاب القرآن للإنسان، فلم ينزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فقط، بل هو منزل على العالمين جميعا.

9) التدبر نفي للفهم الكنسي لعلاقة المسلم بالقرآن:
لقد آتى على كثير من المسلمين حين من الدهر وقع في أخلادهم أنهم غير معنيين يخلق التدبر في القرآن، فقطعوا صلتهم بكتاب الله: فهما وتدبرا، واكتفوا بما يصدر من فتاوى تهم حياتهم العملية، وقضاياهم الدنيوية، فضلا عن القتاوى المتعلقة بالعبادات.
إن التدبر واجب على المسلمين، ونقول، هنا: إن التدبر حق لعموم المسلمين، وللبشرية جمعاء، متى استقامت لهم آلة الفهم، وتحققت فيهم شروط التدبر، وانتفت عنهم موانعه.

10) التدبر تحرير للإنسان من أشكال الخوف والاضطراب:
لم يكن القرآن يهدف، في عرضه للنماذج البشرية في قصص الأقوام والأمم السابقة، إلى التسلية أو السرد الحر، وإنما رسم تلك النماذج من أجل العظمة والاعتبار.
ومن أجل أن يتجنب المسلمون الوقع في شرك الأسباب التي تسوق إلى أخطاء تلك الأمم.
وإذا أخدنا قصة موسى مع فرعون مثلان فإننا نجدها، كما يقول الشيخ رضا، ذكرت في القرآن 120 مرة، ولم يكن ذكرها للتسلية، وإنما «ذكرت حتى لا يتحول الخلفاء إلى فراعنة، وحتى تعرف الشعوب أيضا أن عبارة غير الله جريمة، وأن الرضى بالذل ستكون عقباه الهوان في الدنيا وفي الآخرة».(46)
ويستطيع المرء، حين يبحث في أسباب انتشار الاستضعاف في مجتمعاتنا المعاصرة، أن يدون غياب التدبر في القرآن في مقدمة تلك الأسباب.

يقول الأستاذ عمر عبيد حسنة: «لو تدبر المسلمون القرآن تماما لما حل بهم ما حل من الاستسلام، والسقوط والاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي… لكانوا في مستوى قرآنهم، وما قص عليهم من قصص ليأخذو العبرة، فتحول دون وقوعهم في ما وقع فيه الأقوام السابقون، لكن المشكلة أن القرآن بقي معزولا عن حياة المسلمين، فلم ينتبهوا إلى مثل هذه القضايا».(47)

والواقع أن حل الإشكال الخطير في علاقة المسلمين بالقصص القرآني، يحتاج من الوجهة المنهجية، إلى إعادة النظر في مفاهيم: مثل استنباط الأحكام، وآيات الأحكام، وأساليب التشريع في القرآن الكريم.
فقد توهم كثيرون بأن التشريع يستمد من آيات الأحكام، وأن الأحكام التشريعية لابد أن ترد في صيغ الأمر المعهودة، وأساليب التوجيه المعروفة، مما أثر على حركة التدوين التشريعي، فجاء عطاء العلماء مهمتها بآيات الأحكام، مركزا على تفاصيل الأوامر والنواهي، ولم يتجاوز ذلك إلى استنباط كثير من الأحكام الكلية المرتبطة بأمهات القضايا السياسية والدولية من القصص القرآني، ولو فعلوا ذلك لأبانت لهم وقفاتهم مع القصص القرآني عن مصادر خصبة في فلسفة التشريع.

يقول الشيخ محمد الغزالي: «ولو أننا تأملنا في القصص القرآني، واستفدنا منه أحكاما كما نستمد الأحكام من آية الوضوء أو الغسل- واستفادة الأحكام من الواقع العملي في تاريخ البشرية أهم وأجدر، لأنها عامة، ولأنها تتصل بسنن حضارية لا تختلف- كانت الأمة الإسلامية لا تقبل دنية أبدا».(48)

11) التدبر تحقيق لمفهوم السماع على وجهه الصحيح:
في القرآن الكريم آيات كثيرة تدعو إلى سماع القرآن والإصغاء إليهن مثل قوله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون)(49) وقوله: (فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم اله، وأولئك هم أولوا الألباب).(50)
إلا أن مفهوم السماع تأثر، هو الآخر، بسلبيات الابتعاد عن روح القرآن وجوهر مفاهيمه، وانحسر مدلوله في عملية الجلوس والانصات إلى تلاوته، وقد لا يقع هذا من بعضهم.

يقول رشيد رضا: «وأما المسلمون في هذه البلاد، فأكثرهم اليوم يسمعون القارئ يتلو القرآن فلا يستمعون له ولا يشعرون بأنهم في حاجة إلى سماع، وأكثر الذين يستمعون له ويتصنتون يقصدون بذلك التلذذ بتجويده، وتوقيع التلاوة على قواعد النغمات، ومنهم من يقصد بسماعه التبرك فقط»(51)
وغنما الدرجة العليا للسماع، وهي الدرجة المأمورة بها أصلا، أن «تسمع فتفقه وتعقل، وتتدبر فتعتبر وتعمل، حتى لا تقول يوم القيامة: «لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير».(52)
وبهذا يظهر يف أن التدبر غاية، ووسيلته السماع، شريطة أن يكون بحال أن تتحول الوسيلة إلى غاية، إذ لو عد السماع غاية لانقلبت الأفهام، وازدادت حدة محاصرة القرآن في أوضاع معكوسة لا يتقبلها عقل سليم، ولا يبررها نص من قرآن أو حديث.

* خاتمة:
لا نريد أن نختم كلامنا عن التدبر دون أن نعبر عن ترددنا في خوض غمار هذا الموضوع المتصل بكتاب الله عز وجل.
ورغبة في وصل المدارك بكلام العلماء المعتبرين والمتدبرين، فإننا نستدعي عالما من علماء القلوب وهو الشيخ ابن قيم الجوزية ليلخص لنا أبعاد ما فصلنا القول فيه سالفا.
لقد توقف عند قوله تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)،(53) وأوضح شروط التدبر وموانعه فقال: «وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفا على مؤثر مقتضى، ومحل قابل، وشروط لحصول الأثر، وانتفاء المانع منه، تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه وأدله على المراد:
فقوله: (إن في ذلك لذكرى) إشارة إلى المؤثر.
وقوله: (لمن كان له قلب) فهذا هو الحل القابل، والمراد به القلب الحي الذي يقبل على الله.
وقوله: (أو ألقى السمع) أي وجه سمعه، وأصغى حاسة إلى ما يقال له، وهذا شرط التأثر بالكلام.
وقوله: (وهو شهيد) أي شاهد القلب، حاضر غير غائب، وهو إشارة المانع من حصول التأثير، وهو سهو القلب وغيبته عن تعقل ما يقال له، والنظر فيه وتأمله.
فإذا حصل المؤثر وهو القرآن، والمحل وهو القابل، وهو القلب الحي، ووجد الشرط وهو الإصغاء، وانتفى المانع، وهو انشغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب، وانصرافه عنه إلى شيء آخر، حصل الأثر، وهو الانتفاع والتذكر».(54)

والحمد لله رب العالمين

……………………………………………………………….

1 ) هذا الوصف طرف من حديث رواه الترمذي في جامعه : « كتاب ثواب القرآن». (باب ما جاء في فضل القرآن)، وقال: « هذا لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال» ج 11 / 30.
وأورده البغوي في « شرح السنة» حديث رقم 1181، ج 4 / 438، وقال محققا الشرح :« الحارث هو ابن الأعور الهمداني صاحب علي، كان فقيها فرضيا، وثقه ابن معين، والنسائي وأحمد بن صالح، وابن أبي داود، وتكلم فيه النووي، وابن المديني، وأبو زرعة، والدارقطني وغيرهم… والجمهور على توهينه. وتعقبه الحافــــــظ «في التهذيب» بقوله: « لم يحتج به النسائي، وإنما أخرج له في  « السنن» حديثا واحدا مقرونا بابن ميسرة ، وأخر في « اليوم والليلة».
وقال الحافظ ابن كثير في « فضائل القرآن» : « وقصارى هذا أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح».
2 ) ابن تيمية، « الفتاوى» مكتبة ابن تيمية، القاهرة – ج 13 / 376 – 377.
3) سورة الفرقان – الآية : 30.
4) ابن قيم الجوزية : « الفوائد» ص: 82.
5) أخرجه الترمذي في« كتاب التفسير»، (باب ما جاء في تفسير القرآن بالرأي)، حديث رقم 4022، وقال هذا حديث حسن صحيح.
6) أخرجه الترمذي في« كتاب التفسير»، (الباب الأول من حديث رقم4024)،  وقال عنه : « هذا حديث غريب، وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم.
وعلق الترمذي على الحديثين قائلا: وأما الذي روي عن مجاهد ، وقتادة، وغيرهما من أهل العلم أنهم قالوا في القرآن أو فسروه بغير علم، أو من قبل أنفسهم، وقد روي عنهم ما يدل على ما قلنا أنهم لم يقولوا من قبل أنفسهم بغير علم ».
7)  سورة عبس – الآية : 31.
وقصة عمر مع « الأب» مذكورة في كتب التفسير مثل « جامع البيان» للطبري / ج 30 – ص: 38 – 39.
وعلق ابن كثير عليها قائلا : « فأما ما رواه ابن جرير، فهو إسناد صحيح، وقد رواه غير واحد عن أنس به، وهذا محمول على أنه  أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه، وإلا فهو، وكلف من قرأ هذه الآية  يعلم أنه من نبات الأرض لقوله « فأنبتنا فيها حبا وعنبا …».
8) ابن تيمية : « الفتاوى» ج: 13 / 372.
9) سورة آل عمران – الآية : 187.
10) سورة النحل – الآية : 44.
11) رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة / ج : 2 / 263، والترمذي في « كتاب العلم »(الباب الثالث رقم 2787)، وقال : « وحديث أبي هريرة حديث حسن».
12) مثل « صحيح مسلم» و «البخاري» و « وسنن الترمذي»، وغيرها من السنن والمسانيد.
13 ) السيوطي ،« الإتقان في علوم القرآن» ج 4 / 176.
14) سورة النساء – الآية : 82.
15) ابن تيمية :« الفتاوى» ج : 13 / 231 – 232.
16) د. محمد فتحي الدريني: « دراسات وبحوث في الفكر الإسلامي المعاصر» دار قتيبة – بيروت / ط 1 – 1988 – ج: 1 / 215 – 216.
17 ) الفيروز آبادي : « بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز» ج : 2 / 319.
18) ابن قيم الجوزية : « الفوائد» / ص : 3.
19 ) فتحي الدريني : « مر جع مذكور» ج: 1 / 216.
20) القرطبي : « الجامع لأحكام القرآن» ج: 16 / 247.
21) الطبري : « جامع البيان في التأويل أي القرآن» ج: 26 / 36 – 37.
22) سورة المطففين – الآية : 14.
23) رواه أحمد عن أبي هريرة / ج: 2 / 297، والترمذي في « كتاب التفسير»، حديث رقم 3390 / ج: 5 / 105، وابن ماجة في كتاب الزهد.
24) « جامع البيان في تأويل أي القرآن…» : ج : 30 / 62.
25) نفس المرجع والصفحة.
26) الزركشي : « البرهان في علوم القرآن» تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم / دار الفكر – ط : 1980 – ج: 2 / 180.
27 ) د عبد الرحمن حنبكة الميداني : «قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل»
28) الزمخشري: «الكشاف» ج: 1/ 546- 547.    
29) سيد قطب: «في ظلال القرآن»  دار الشروق- ط: 9/198- ج: 2/ 722.
30) القرطبي: «الجامع لأحكام القرآن» ج: 19/ 247.
31) القاسمي: «محاسن التأويل» ج: 15/5387.
    وهو أحد الوجهين اللذين ذكرهما الزمخشري في قوله: «فإن نكرت القلوب؟ قلت: أما التنكير، فقيه وجهان: أن يراد على قلوب قاسية أمرها مبهم أمرها في ذلك، أو يراد على بعض القلوب وهي قلوب المنافقين» انظر «الكشاف»  ج: 3/356
32) سورة الكهف- الآية: 29.
33 ) سورة الحجرات- الآية: 7.
34) ابن منظور: «لسان العرب» دار الفكر- ط: 1/ 1992- ج: 273.
35) سورة الحجر- الآية: 66.
36) سورة الأعراف- الآية: 72.
37) عبد الرحمن حبنكة الميداني: «مرجع مذكورة»، ص: 10.
38) المرجع نفسه: ص: 9.
39) الزمخشري: «الكشاف» ج: 3/ 372.
   والمهرة النثور: هي أنثى الفرس، الكثيرة الولد، واللقحة الدرور: هي الناقة الحلوب، الغزيرة اللبن.
40 ) الكشاف: ج: 3/ 373.
41) سيد قطب: «في ظلال القرآن»، ج:2/ 721.
42 ) المرجع نفسه: ج: 4/ 2474.
43) الكشاف: ج: 3/ 536.
44 ) الجاحظ: «رسائل الجاحظ» تحقيق عبد السلام محمد هارون/ مكتبة الخانجي- القاهرة/ ط: 1- 1979- م، 1،ج: 4/179.
45) ابن القيم الجوزية: «الفوائد»ص: 3.
46 ) محمد الغزالي: «كيف نتعامل مع القرآن» في مدارسة نجزها الأستاذ عمر عبيد حسنة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي- ط: 1- 1991- ص: 229.
47) المرجع نفسه: ص: 231.
48) المرجع نفسه: ص: 230.
49) سورة الاعراف- الآية: 204.
50) سورة الزمر- الآية: 18.
51) محمد رشيد رضا: «تفسير المنار»- دار المعرفة/ بيروت- ط: 2/ ج: 9/ 629.
52) المرجع نفسه: ج: 9/ 631.
53) سورة ق- الآية: 37.
54 ) ابن القيم الجوزية- «الفوائد»، ص: 3

العزيز المفقود - الموقع الرسمي
Logo