لماذا نتدبر القرآن؟ [2]

أ.د. ناصر العمر

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المجتبى، وبعد:

من الأسباب الداعية إلى تدبر القرآن أمرُ الله لنا بأن نقف مع آياته وأن نتدبرها، بل ما أنزل الله القرآن إلا من أجل أن يُتأمل ويُتدبر ليُعمل به كما قال سبحانه: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} [ص:29]، وقال: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وقال عز مِن قائل: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، وقال عز وجل: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ . لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ . قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ . مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ . أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون:64-68]، وقال جل شأنه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ .بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:43-44].

فالتفكر والتدبر والوقوف مع الآيات وتأملها أمر دعت إليه نصوص متظاهرة ولأجله أنزل القرآن، قال الحسن رحمه الله: “نزل القرآن ليُتدبر ويُعمل به”، قال ابن القيم في المدارج: “فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن وإطالة التأمل وجمع الفكر على معاني آياته، فإنها تُطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما، وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتضع في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه وتشيد بنيانه وتوطد أركانه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم وتريه أيام الله فيهم وتبصره مواقع العبر، وتشهده عدل الله وفضله، وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه، وقواطع الطريق وآفاتها، وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم، ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه وافتراقهم فيما يفترقون فيه، وبالجملة تعرفه الرب المدعو إليه وطريق الوصول إليه وما له من الكرامة إذا قدم عليه.

وتعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطان، والطريق الموصلة إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه”. اهـ ولهذا تسمع قول الحق سبحانه وتعالى مقررًا أنه قد أنزله مباركًا ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [ص:29]، فهذه (اللام) في {ليَدَّبَّروا} و{ليتذكر} لام الغاية والحكمة، فمن لم يأخذ حظه من مدخولهما لن يأخذ حظه من بركته، فعلى قدر سعيك إلى اكتساب حظك من التَّدبُّر والتَّذكُّر يكون حظك من بركة هذا الكتاب العظيم، وقد وصف الله جل جلاله القرآن الكريم في مواضع بالبركة: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام:92]، {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:155]، {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [الأنبياء:50].

والبركة من الكلمات الحبيبة التي تنشرح لها قلوب العباد، فإنها مرتبطة في وعيهم بالنماء والزيادة، وقد يغفلون عن معنى الثبات والدوام الذي تتضمنه الكلمة، فقرر بهذه الكلمة نَعْتينِ للكتاب:تجدد عطائه، ودوام نفعه. ومن ثَمَّ حثَّ على تدبره لاستخراج ما فيه من خير متجدد لا يزول ولا يحول ولا يغيض، فهو لا يَصْلُحُ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ وعصرٍ ومصرٍ فحســب، بل هـو يُصلِح كلَّ ذلك ويقومه ويقيمه على سواء الصراط: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرا} [الإسراء:9]، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا} [الإسراء:82].

وأنت إذ تنظر في قول الله عز وجل {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [ص:29]، تر أنه سبحانه وتعالى قال {ليدّبروا} في قراءة الجماعة، و{لتَدَبَّرُوا} في قراءة أبي جعفر.

قراءة أبي جعفر بالتاء (المثناة الفوقية) هي لكل من يصح خطابه ولا سيما من كان أمة الإجابة وعلى رأسها المخاطب بصدر الآية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقراءة الجماعة بالياء (المثناة التحتية) لم تعين مرجع (الواو) كمثل ما جاء التعيين في {ليَتذَكّر} إذ جعله من أولي الألباب {وَلِيَتَذَكّرَ أُولُو الألْبَاب}، إشارةً إلى أن التذكرمنزلة مترتبة على حُسن التدبر، فمن قام بشيءٍ من حق التَّدبُّر كان له من التذكر نصيب على قدر لُبِّه، وكثيرًا ما يقرِنُ التذكر بأولي الألباب: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} [البقرة:269]، واللب هو خالص القلب الذي به يكون التعقل والتفكر والتذكر،والله عز وجل قد حث عباده على تدبره مقررًا اتساقه قائلًاسبحانه وتعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فقرر أن ما يكون من عند غير الله سبحانه وتعالى فيه الاختلاف الكثير، أما ما كان من عنده جل جلاله فلا اختلاف فيه البتة، ولكن فيه تصريف البيان عن المعاني المحقق لبيان المراد كماله.

وفي هذا دعوة ربانية وإغراء كريم بالعكوف على تدبُّر البيان القرآني والوقوف على اتساقه وتناسبه، فإنه لن يؤمن المرء بأن القرآن الكريم من عند الله عز وجل إيمانًا مؤسسًا على علم وعرفان إلا إذا استفرغ جهده في هذا التدبر، فهو من جليل العبادات”[1]. فهلا استجبنا إخوة الإسلام لأمر ربنا، وعملنا على تدبر كتابه لنيل رحماته؟ ولعل ذلك لا يكون إلا بتدبر ما ذكر هنا من آيات.

أسأل الله أن ييسر لي ولكم أسباب الاستجابة إلى أوامره، وأن يجعلنا من المتدبرين لآياته.

…………………………………………………….

[1] (من كلام الدكتور محمد توفيق في كتابه العزف على أنوار الذكر).

العزيز المفقود - الموقع الرسمي
Logo