د. أحمد بن عبدالرحمن القاضي
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
فإن (القرآن المبارك) مستودع العقيدة، ومنبعها. و(رمضان المبارك) مبدأ نزول القرآن، وموسم مدارسته. و(التدبر) هو الغاية التي لأجلها أنزل القرآن، كما قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29].
ولئن كانت (العقيدة) تمثل منظومة اليقينيات، والحقائق الغيبية، التي جاء بها الكتاب العزيز، والسنة الصحيحة، فإن (التدبر) هو الذي يعقدها في القلب. وهذا الانعقاد يتفاوت إحكاماً بين مؤمن وآخر، بحسب حظه من آلته، وهو التدبر.
حينما يستغرق بعض الناس في قراءة رواية ما، يجدون أنفسهم مستلبين، مأخوذين، بأشخاصها، ورسومها، وأحداثها، حتى لربما تراءى لهم ذلك في حياتهم اليومية؛ فمن يقرأ قصة عاطفية، غرامية، تصطبغ مخيلته بلون معين من الصور، والأشكال، والمشاعر، وربما انعكس ذلك على علاقاته. ومن ينهمك في قراءة قصة (بوليسية) تسبح خيالاته في أجواء الجريمة، والعنف، والمطاردة، ولعله يتقمص بعض شخصيات روايته، أو ينظر إلى الآخرين من خلالها. وحين ينكبُّ الطالب على دراسة كتاب في الرياضيات، أو الفيزياء، أو الأحياء، أو غير ذلك، تستحيل الحياة عنده إلى حزمة من المعادلات، أو الموجات، وربما خيل إليه أنه يبصر الكائنات الدقيقة.
أما حين يقبل المؤمن على كتاب الله، يتلوه حق تلاوته، ويسلم له عقله، وقلبه، فسرعان ما يسري فيه روح عجيب، يعيد ترتيب النفس، وتنظيم الفكر، وضبط الوجدان. يجد كلاماً جليلاً، وقولاً ثقيلاً، ونوراً مبيتاً. قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ [الشورى: 52].
(القرآن) حقاً معجزة خالدة! تذعن له الأعناق، وتطأطئ له الرقاب، وتذرف له الدموع، وتخشع له القلوب، وتقشعر منه الجلود، ثم تلين لذكر الله! بالله عليكم! هل يجتمع ذلك التأثير في غير القرآن؟ لا والله!
لقد هز أركان العتاة، وكسر شوكتهم، وأطفأ فوعتهم. فقد روى ابن إسحاق في السيرة: ( أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدًا، قال يومًا، وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش! ألا أقوم إلى محمد، فأكلمه، وأعرض عليه أمورًا، لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيَّها شاء ويكف عنا؟
وذلك حين أسلم حمزة، ورأوا أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يزيدون، ويكثرون.
فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقم إليه فكلمه.
فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم، ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم. فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها، لعلك تقبل منا بعضها.
فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “قل يا أبا الوليد، أسمع“.
قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريدُ بما جئتَ به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون من أكثرنا أموالاً. وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونك. وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا. وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيّا تراه، لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُدَاوَى منه، أو كما قال له.
حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم- يستمع منه، قال: “أفرغت يا أبا الوليد؟“
قال: نعم.
قال: “فاستمع مني“
قال: أفعل.
قال: ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴾ [فصلت: 1 – 4].
ثم مضى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيها يقرؤها عليه، فلما سمع عتبة، أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه،ثم انتهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى السجدة منها، فسجد، ثم قال: “قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك“.
فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: أقسم -يحلف بالله- لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.
فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟
قال: ورائي أني قد سمعت قولاً، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني! واجعلوها لي، خلوا بين الرجل، وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فو الله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب، فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فمُلْكُهُ ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.
قالوا: سحرك، والله يا أبا الوليد بلسانه! قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم) [عن السيرة النبوية، لابن هشام: 1/293].
وقد أخرج الحاكم عن ابن عباس، أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم- فقرأ عليه القرآن، وكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فقال له: يا عم! إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه، لئلا تأتي محمداً فتعرض لما قاله
فقال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً
قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له، وكاره
قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزها، وبقصيدها مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يُعلى
قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.
قال: فدعني حتى أفكر فيه،
فقال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت ﴿ فَذَرني وَمَن خَلَقتُ وَحيدًا ﴾ الآيات كلها. [انظر: أسباب نزول القرآن – (ج 1 / ص 156)].
فإذا كان هذا الخضوع للقرآن يقع لهذين العتلّين، الصنديدين، من أئمة الكفر، وهم ينهون عنه، وينأون عنه، فكيف بأصحاب القلوب الرقيقة، والفطر السليمة ؟
ولم يزل الناس حتى يومنا هذا يلحقهم لسماعه دهشة، وروعة، وإجلال، وانبهار، ولربما سمعه من لا يحسن العربية، فتأثر به، وميَّزه عن سائر الكلام، في قصص مشهورة. وذلك لما زينه الله به من الحلاوة، والطلاوة الظاهرة، فكيف بمن تدبره، وتفكر في معانيه، وتأمل آثاره.
وقد وردت كلمة (يعقلون) أو(تعقلون) ستاً وأربعين مرة. ووردت كلمة (يتفكرون) أو (تتفكرون) ثلاث عشرة مرة. ووردت كلمة (يتذكرون) و (تتذكرون) و (يذكرون) إحدى وعشرين مرة. وجاء الأمر بالتدبر، تصريحاً، وتلميحاً، في آيات بينات:
♦ كقوله: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].
♦ وقوله: ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ﴾ [المؤمنون: 68].
♦ وقوله: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24].
وبإزاء هذا الحض والثناء على التدبر والمتدبرين، ذم وتسفيه للغافلين، المعرضين:
♦ كقوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26].
♦ وقوله: ﴿ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ﴾ [الشعراء: 5].
♦ وقوله: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [محمد: 16]، وأمثال هذا كثير.
إن في شهر رمضان، فرصة مثالية لتدبر القرآن، وبناء مفردات العقيدة في النفس، وصيانتها، وتقويمها. ولهذا كان نبينا – صلى الله عليه وسلم – ينتهز هذه الفرصة.
كما في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما، قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم – أَجْوَدَ النَّاسِ ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ) [متفق عليه].
وسنذكر في حديث قادم – إن شاء الله – بعض القواعد المعينة على تحقيق عبادة التدبر. والله المستعان، وعليه التكلان.