أ.د. خالد السبت
فإنه قد عُلِم أنه من قرأ كتابًا في الطب أو الحساب أو النحو أو الفقه أو غير ذلك، فإنه لا بد أن يكون راغبًا في فهمه وتَصَوُّر معانيه، فكيف بمنْ قرؤوا كتاب الله تعالى المُنزل إليهم الذي به هداهم الله، وبه عَرَّفَهم الحق والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال، والرشاد والغي.
يمكن أن نستبين أهمية التدبر من وجوه عدة منها:
أن الله تعالى جعل ذلك مقصودًا من إنزاله؛ كما في قوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] .
قال الشيخ محمد الأمين الشِّنقيطي – رحمه الله – تعليقًا على هذه الآية: «وأمَّا كون تَدبُّر آياته، من حِكَم إنزاله: فقد أشار إليه في بعض الآيات، بِالتَّحْضِيضِ على تَدبُّره، وتوبيخ من لم يتدبره؛ كقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، وقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68].
أن الله تعالى أنكر على من لم يتدبره؛ كما في قوله – عز وجل -: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
قال الشيخ الشنقيطي – رحمه الله – تعليقًا على هذه الآية: «ومعلوم أن كلَّ من لم يشتغل بتدبُّر آيات هذا القرآن العظيم- أي: تَصَفُّحِها وتَفَهُّمِها، وإدراك معانيها والعمل بها- فإنه مُعْرِض عنها، غير متدبِّر لها؛ فيستحق الإنكار والتوبيخ المذكور في الآيات إن كان الله أعطاه فهمًا يقدر به على التدبر، وقد شكا النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى ربه من هجر قومه هذا القرآن؛ كما قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30].
وهذه الآيات المذكورة تدل على أن تدبر القرآن وتَفَهُّمَه وتَعَلُّمَه والعمل به، أمر لا بد منه للمسلمين.
وقد بين النبي – صلى الله عليه وسلم – أن المشتغلين بذلك هم خير الناس؛ كما ثبت عنه – صلى الله عليه وسلم – فِي الصحيح، من حديث عثمان بن عفان – رضي الله عنه -، أنه – صلى الله عليه وسلم – قال: {خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ}، وقال تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]. فإعراض كثير من الأقطار عن النظر في كتاب الله وتَفَهُّمه والعمل به وبالسنة الثابتة المُبَيِّنة له، من أعظم المناكر وأشنعها، وإنْ ظن فاعلوه أنهم على هدى … ».
أنه لا سبيل إلى تحصيل المطالب العالية والكمالات إلا بالإقبال عليه وتدبره وتَفَهُّمه.
قال الحافظ ابن القيم – رحمه الله -: «فلما كان كمال الإنسان إنما هو بالعلم النافع، والعمل الصالح، وهما الهدى ودين الحقِّ، وبتكميله لغيره في هذينِ الأمرين؛ كما قال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 – 3]، أقسم سبحانه أنّ كلَّ أحد خاسر إِلا من كَمَّل قوته العلمية بالإيمان، وقوته العملية بالعمل الصالح، وكَمَّل غيره بالتوصية بالحق والصبر عليه، فالحقُّ هو الإيمان والعمل، ولا يَتِمَّان إلا بالصبر عليهما، والتواصي بهما-: كان حقيقًا بالإنسان أن ينفق ساعات عمره، بل أنفاسه، فيما ينالُ به المطالب العالية، ويخلص بهِ من الخسران المبين، وليس ذلك إلا بالإِقبال على القرآن وتَفَهُّمه وتدبره، واستخراج كنوزه، وإثارة دفائنه، وصرف العناية إليه، والعكوف بالهمة عليه، فإنه الكفيل بمصالح العباد في المَعَاش والمعاد، والمُوصِل لهم إلى سبيل الرشاد» اهـ .
أنه الطريق إلى معرفة العبد لخالقه جل جلاله معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو الطريق إلى معرفة صراطه المستقيم الذي أمر العباد بسلوكه.
قال الآجري – رحمه الله -: «ومن تدبر كلامه، عرف الربَّ – عز وجل -، وعرف عظيم سلطانه وقدرته، وعرف عظيم تَفَضُّله على المؤمنين، وعرف ما عليه من فَرْضِ عبادته، فألزم نفسه الواجب، فحذر مما حذَّره مولاه الكريم، ورغب فيما رَغَّبه فيه، ومن كانت هذه صفته عند تلاوته للقرآن وعند استماعه من غيره، كان القرآن له شفاء، فاستغنى بلا مال، وَعَزَّ بلا عشيرة، وأَنِس بما يستوحش منه غيره، وكان هَمُّه عند التلاوة للسّورة إذا افتتحها: متى أتعظ بما أتلو؟ ! ولم يكن مراده: متى أختم السّورة؟ ! وإنما مراده: متى أعقل عن الله الخطاب؟ ! متى أزدجر؟ ! متى أعتبر؟ ! لأن تلاوته للقرآن عبادة، والعبادة لا تكون بغفلة» اهـ .
أن ذلك من النصيحة لكتاب الله تعالى.
قال الحافظ ابن رجب – رحمه الله -: «وأما النصيحة لكتاب الله، فَشِدَّة حُبِّه وتعظيم قَدْرِه؛ إذ هو كلام الخالق، وشِدَّة الرغبة في فهمه، وشِدَّة العناية لتدبره والوقوف عند تلاوته لطلب معاني ما أحب مولاه أن يفهمه عنه، أو يقوم به له بعد ما يفهمه، وكذلك الناصح من العباد يفهم وصية من ينصحه، وإن ورد عليه كتاب منه، عُني بفهمه؛ ليقوم عليه بما كتب به فيه إليه، فكذلك الناصح لكتاب ربه؛ يُعْنَى بفهمه ليقوم لله بما أمره به كما يُحِب ويرضى، ثم ينشر ما فهم في العباد ويديم دراسته بالمحبة له، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه» اهـ .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: «فإنه قد عُلِم أنه من قرأ كتابًا في الطب أو الحساب أو النحو أو الفقه أو غير ذلك، فإنه لا بد أن يكون راغبًا في فهمه وتَصَوُّر معانيه، فكيف بمنْ قرؤوا كتاب الله تعالى المُنزل إليهم الذي به هداهم الله، وبه عَرَّفَهم الحق والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال، والرشاد والغي؟ ! فمن المعلوم أن رغبتهم فِي فهمه وتصوُّرِ معانيه أعظم الرغبات، بل إذا سمع المتعلم من العالم حديثًا، فإنه يرغب في فهمه؛ فكيف بمن يسمعون كلام الله من المبلِّغ عنه؟ ! بل من المعلوم أن رغبة الرسول – صلى الله عليه وسلم – في تعريفهم معاني القرآن أعظم من رغبته في تعريفهم حروفه؛ فإن معرفة الحروف بدون المعاني لا تُحَصِّل المقصود؛ إذ اللَّفظ إنما يُرَاد للمعنى».
أن تدبر القرآن من أَجَلّ الأعمال وأفضل التَّعَبُّدَات.
قال الحافظ ابن رجب – رحمه الله -: «ومن أعظم ما يُتَقَرَّب به إلى الله تعالى من النوافل كثرة تلاوة القرآن، وسماعه بتفكُّر وتدبر وتَفَهُّم؛ قال خَبَّاب بن الأرت لرجل: تقرب إلى الله ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحبُّ إليه من كلامه» اهـ.