د.سليمان العبودي
بسم الله الرحمن الرحيم
دلفت مرَّةً إلى البريد الشبكي بعد انقطاع عنه.. كان دخولي ذاك قبيل إخلادي للنوم بدقائق، لمحت في أعلى البريد أن ثمة رسالة جديدة لم أفتحها، أدرت سهم النزول للأسفل، وما إن أتممتُها عن آخِرها حتى غلا الدم في عروقي، كان كلُّ حرفٍ فيها قابل لإشعال نار صغيرة داخل الضلوع، اجتهد راقم الرسالة في نوالِ أمرين: في الكشف عن جانب شديد الحُلكة في قلبه، وفي إغفال اسمه ليتخلى عن مسؤولية الذخيرة الحية من الكلمات المضمَّنة هذا البريد، لتغدو الحروف المتعالية في هذه الرسالة وكأنها صاعقة سماوية نزلت بقَدَر.. ولم تنبعث من فاعل أرْضي!
كدتُّ أن أضرب صفحا عن كل ذلك فأغلق شريط الصفحة، وأغفو بهدوء تام، لكني انتبهتْ فجأةً إلى آخر مفردةٍ في السطر الأخير؛ إنها لفظةٌ أعرفها جيدا، هذه المفردة لا يستعملها مذْ سمعها الأصمعي من أفواهِ الأعراب وهو يجوب الفيافي والقفار غيرُ كاتبِ الرسالة، وكنت قبلُ أستغرب من كثرة استعماله لها إلى أن أجراها الله على قلمه في آخر هذه الرسالة، رغم احترازه وتذاكيه بإخلاء حروفه من طرائقه المألوفة في تشكيل الحروف، وهو يظنّ أنَّ بوسعه ما دام مجهولا أن يكشف عن جانبٍ حالكٍ من قلبه لا يُرى عبر حسابه النَّقي المليء بالتعابير الودودة؛ بدأت دون وعيٍ أعيد قراءة حروفه لأستطيع نقضها واحدًا تلو الآخر على رأسه، ولأفجؤه بمعرفةِ اسمه فهذا لن يخطر له ببال، لكن كنت متحيرًا هل أكتب له اسمه في بداية الرسالة لتنفك عُرى مفاصلِ تفكيره قبل استتمامها! أم في وسطها ليفجؤه وميض اسمه وهو مسترخٍ في قراءة الرد! أم في آخره ليرتطم به كالجدار المظلم في أسفل المنحدر!
وقررت –دون شعور- أنه برغم انهماكي في تصفية حسابي معه على هذا النحو؛ فلا بدَّ أيضا أن أحافظ على رزانتي عنده، وأن أكتب له في خاتمة الردّ كلمات تشي أن هذا الرد القوي إنما كُتِب احتسابا وطلبا للثواب، ولم يكن –حاشا لله- غارقا إلى أذنيه في شهوة الانتصاف وردّ البغي، ووجدتني أضيف في خاتمة الرد قريبا من السطرين التاليين: (ليس من عادتي الرد بهذه القسوة؛ إلا أنني رأيت أن المقام يستوجب ذلك نصحًا لك، وأسأل الله أن يهديَك ويصلحك إلخ إلخ) هنا انتهت سطور رسالة النَّقْض، ومع جفافِ آخر حرفٍ فيها وقبيلِ بعثها؛ شعرتُ أني أفرغت الحرارة على الورق! ولم يبقَ في جوفي جمرٌ يتلهّب؛
حينها أعدت النظر ابتداءً في السطرين الأخيرين بروح أخرى؛ قبضتُ على نفسي متلبّسًا فيهما بحيل نفسية عديدة لم أنتبه لها إلا الآن بعد انقشاع الغمامة؛ فـ (ليس من عادتي..) هذه العبارة الشَّهيرة يتعشَّقُها المنفعلون لأنفسهم، فمن عادةِ كلُّ من يردّ ويؤذيه أن ردّه واقعٌ في خانة الانتصار للنفس أو لبعض القضايا التي يعرف في قرارةِ نفسه ضآلة حجمها؛ أن يكتبَ أوَّل ردِّه: (ليس من عادتي أن أردّ)! كأنّه يبوح لخصمه أنه سينزل إليه في حضيضه ثم يعود سامِقا في دربه، ثم لمحت العبارة الثانية وهي تحاول أن تغمس نفسها في بحر الشفقة وبذل النصح بينما تفوح من حروفها رائحة الانتصار للذات وتجري من ميزابها مياه الخلل، ثم لمحت ثالثا الدعوات المصطنعة في آخر السطر؛ نعم..لم تكن كاذبةً لكنها لم تكن صادقة بالقدر الكافي، فقد كنتُ قبل الردِّ مخيرا بين العفو وبين الانتقام، فاخترت -دون شعور- أن أعفو بانتقام! وأن أفوز بلذة الانتصار للنفس دون تفوتني أبَّهة الغافِر وصولجان الحليم! واستذكرتُ على الفور مع هذه الدعوات التي ختمت بها الرسالة عبارةً لطيفة في روايةٍ أدبية كنت قرأتها في الطائرة ذات ضُحى خريفي؛ تحدث صاحبها عن عادتنا المألوفة حينما (نزخرف أهواءنا بكلمات التقوى المضيئة، وكيف نداري ضعف نفوسنا بقبسات الوحي الإلهي!)
هذا كله قرأته في السطرين الأخيرين اللذَين كُتِبا أصلا بقصد إحداث التوازن بين شطري الرسالة، وألحِقا استبقاءً للقدر الرفيع للنفس المتبقي في نفس هذا المرسل! فما حجم الصّغَار الذي لاح حينما رفعت بصري إلى باقي الجواب.. خصوصا بعد تحرير رقبة الوعي من ضغطة أصابع الغضب؟! أفقتُ والله على رزمة حقائق انتقبتْ لهولها الحروف الماثِلة!
يا الله! كم هي معركة صغيرة هذه التي يلجُها الإنسان دفاعا عن نفسه وتسويدا لمكانته! تلك الدقائق التي تصرفها في إعادة الاعتبار لذاتك هي ضائعة بحسب الميزان العمري للإنجاز، تلك الأحبار التي تسكبها بحماسة لتبقى مكانتك عاليةً سامقةً في نفوس بشرٍ مثلك هي تافهة بحسب معدل القيمة والإنتاج.. تلك الأسس الجديدة للعلاقات التي تنظمها لا بحسب الصلاح والتقوى وإنما بحسب التودد إليك.. تلك الغضبة التي تزفرها.. تلك الطاقة التي تُبخِّرها.. تلك النفثة التي ترسلها.. تلك الثواني التي تضيعها..تلك المشاعر التي تُبدِّدها.. كلها والله صغيرة جدا جدا.. حتى إنها لا تُرى بالعينِ المجرَّدة المستحضرة لحقائق الحياة والممات!
ليست مشكلة المعارك الصغيرة فحسب أنها تستنزف الإنسان وتلتهم طاقته وتأكل ساعاته كما أخَّرت نومي تلك الرسالة قريبا من الساعة، وإنما مشكلتها الحقيقية أن طبيعة النفوس حينما تلجُ معركةً صغيرة ويُخجلها كونها ترى قامتها المديدة منتصبةً في معركةٍ خاسرة تفرُّ إلى نسج حيلة نفسية مألوفة؛ وهي نفخ بالونِ هذا العراك الصغير ببعض الأدلة الشرعية والعبارات التي تربِّت بها النفس على سؤال الجدوى لئلا تضطر للتجاوز عن حظوظها، وهذه النفس حينما لا يلجمها المرء فإن لديها القابلية الهائلة –دون أن تدري- لأن تنصب في داخلها صنما صغيرا توشك أن تعبده وتنحني إليه وتحفز الناس للطواف حوله سبعة أشواط كل يوم! ثم تظل في صراع دائم مع الذين لا يعترفون بقداسة هذا الحرم! ليست هذه مبالغة، فهناك من لا ينام لأجل انخفاض مستوى جاهه في نفوس بشريَّة! وهناك من ينقبض فؤاده شهرا لأنه حينما ولَج إلى مجلس الرفاق القدامى ولاحَ لهم شخصه ماثلا لم تطرق مسامعه عبارات الترحيب بالقدر الكافي، وهناك من تقرضه كلاليب الحزن لأن مشاركته العلمية الرصينة التي وضعها في (قروب واتسابي) لم تحظَ بإعجاب إلا أحد الأعضاء ، وزاد الطين بلَّة كون هذا العضو عبَّر له عن هذا الإعجاب في حديث جانبي خارج (القروب)! ونحو هذه المواقف التي تُغرق النفوس في وحل تعظيم النفس وتشلّ حركتها في دروب الإنجاز.
وهكذا تحترق طاقة المرء وهو يذود عن حمى مجده الشخصي وتذوي نُضرة أيامه وهو يحرس حظيرة نفسه وأهوائها، وشموخُ النفس عن هذا الحضيض هو مكسب حتى بالحسابات الدنيوية الخالصة لمن لا تنشط نفسه للعفو تعبدا أو تعاليا عن هذه المنحدرات، وقد تنبّه لهذا بعض أهل الذكاء الاجتماعي، فالعفو والتجاوز هو في كثير من المواقف صفعة للمتجني توجهها بسواعد الآخرين نيابةً عن كَفِّك! وقد أشار لهذا المعنى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقد أخرج ابن أبي الدنيا بسنده عنه قوله🙂 أول عوض الحليم من حلمه أن الناس أنصاره على الجاهل)مع أن الأفضل من هذا هو التَّسامُق الحقيقي ليفوز المؤمن بأجور العفو العظيمة وليفوز بتاج العزّ الإلهي الموعود فقد روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(ما زاد الله عبدًا بعَفْوٍ إلاّ عزًّا) ثم ليفرغ طاقته في المعارك الكبرى، ومن استغرق في الذود عن حياض نفسه واسترسل في افتعال الحجج ونظمِها في هذا؛ انحلَّت من نفسه شيئا فشيئا عرى الغضب للدين وشرائعه، وقد أشار عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- إلى أنه (لا يحب الدخول في المعارك الصغيرة ويفضِّل الاستسلام فيها؛ كي لا تضيع فيها طاقته فيما لا يفيد) وهذا المعنى البديع الذي اتخذه المسيري منهجا في حياته أشار له شيخ الإسلام رحمه الله حينما ذكر أن من أسباب المعينة لتجاوز مثل هذه المعارك الصغيرة: (أن يَعلم أنه إذا اشتغلتْ نفسُه بالانتقام وطلب المقابلة ضاعَ عليه زمانُه، وتفرَّقَ عليه قلبُه، وفاتَه من مصالحِه مالا يُمَكِن استدراكُهُ، ولعلّ هذا أعظم عليه من المصيبة التي نالتْه من جهتهم، فإذا عفا وصَفحَ فَرغَ قلبُه وجسمُه لمصالحه التي هي أهمُّ عنده من الانتقام).
وأساس البلاء في كل هذه الأدواء النفسية هو في ما أسميه بـ(عقيدة انتظار الثواب واستبعاد العقاب من الناس) التي تسيطر على بعض النفوس فتحرمهم وقارَ الهدوء ولذّة العيش وتمام الاتزان؛ لذا لخّص الإمام ابن حزم –رحمه الله- طريق راحة هذه النفس التي بين جنبيك بعبارةٍ مغموسة في بحر الحكمة؛ فقال: (طرد الهم ليس له إلا طريق واحد وهو العمل لله تعالى، وما عدا هذا فضلال وسخف) فالعلاقة مع الناس غزيرة بالمفاجآت غير المحتسبة ومليئة بالتعرجات والمنحدارات الكثيرة؛ أما الخالق عزَّ وجلَّ فالعلاقة معه شديدة الوضوح إلى درجة مثقال الذرّ! فكل شيء مرصود، فلا تظلم نفس شيئا! وإن كان مثقال ذرة! وكفى بالله حسيبا! وقد تواترت عبارات أرباب السلوك في توكيد أهمية إبطال(عقيدة انتظار الثواب واستبعاد العقاب من الناس) حتى قال ابن القيم: سمعت ابن تيمية –رحمهما الله- يقول: (العارف لا يرى له على أحد حقا، ولا يشهد له على غيره فضلا، فلذلك لا يعاتب ولا يطالب ولا يضارب) وقال الإمام الناسك بشر بن الحارث –في إيجاز تام-: (من عرف الناس استراح( ولا يعني هذا أن ينصرف الإنسان عن الفرح بالقبول من الناس، فالمطالبة بهذا مناقض لمقتضى الطبيعة البشرية، ومخالف لظواهر النصوص الشرعية، ومما استنبطه الشيخ الفهّامة ابن سعدي –رحمه الله- من مفهوم آية (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا..) أن محبة الإنسان (أن يُحمد ويثنى عليه بما فعله من الخير واتباع الحق إذا لم يكن قصده بذلك الرياء والسمعة أنه غير مذموم، بل هذا من الأمور المطلوبة التي أخبر الله أنه يجزي بها المحسنين..).
وأودُّ أن ألفت الانتباه إلى أن مفهوم المعارك الصغيرة هو أوسع بكثير من معارك الحظوظ النفسية، فحتى الأبواب العلمية الخالصة هناك معارك كبرى تستحق أن ينفق المرء لياليه لأجلها، وهناك معارك صغرى (أمرها قريب) -على حد تعبير أبي العباس- وكل هذه الجوانب جديرة بتسليط الضوء عليها، لكني اخترت الاقتصار هنا على معارك الحظوظ النفسية لأن الأمر الذي أتيقّنه أن شطر المعارك الصغرى إنما تقع هناك.. هناك على ضِفاف النفوس البشرية! وهي تستنزف النشاط وتطفئ وهج النفس وتعرقل خُطى المسير ثم هي توهِنُ طاقَتَك عن الالتفات إلى المعارك الكبرى التي تنتظرك!
الثلاثاء 29 /8 / 1436 هـ