مقدمة عن تدبر القرآن

أ.د. خالد السبت

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد امتن الله  علينا -معاشر هذه الأمة- بأن أنزل علينا هذا الكتاب المبين الذي يتلوه علينا خير رسول بُعث إلى البشرية ﷺ (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الجمعة:2]، كما أنه -تبارك وتعالى- حمد نفسه على إنزال هذا الكتاب كما في قوله -تبارك وتعالى- في صدر سورة الكهف (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) [الكهف:1]، ووصف هذا القرآن بقوله (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا) [الكهف:1-3]، والله إنما يحمد نفسه  على أمر مهم عظيم، وعلى إفضال كبير تفضل به على هذه البشرية، إنه إنزال هذا القرآن على النبي ﷺ.

بل عظم نفسه وقدسها حيث أنزل هذا القرآن كما في قوله في أول سورة الفرقان: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) [الفرقان:1].

وحث على تدبره وتفهمه والنظر في معانيه فإنه إنما أُنزل من أجل ذلك، كي يكون هذا وسيلة إلى العمل به، ولم يُنزل من أجل التبرك به وافتتاح الحفلات والمناسبات وما إلى ذلك أو يُعلق على الجدران.

حث على تدبره وتفهمه والنظر في معانيه فإنه إنما أُنزل من أجل ذلك، كي يكون هذا وسيلة إلى العمل به، ولم يُنزل من أجل التبرك به وافتتاح الحفلات والمناسبات وما إلى ذلك أو يُعلق على الجدران.

فإن القرآن إنما أُنزل ليكون منهجاً في هذه الحياة يُطبق ويسير الناس على ضوئه، فالله  يقول: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) [النساء:82]، (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24]، وأخبر أنه إنما أنزله لهذا المعنى بقوله: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [ص:29].

وأخبرنا  أنه يسر هذا القرآن لهذا التدبر والتفهم، فلم يحدثنا الله  ويخاطبنا بالأحاجي والألغاز والطلسمات، وإنما كلمنا بأمور مفهومة معلومة تُدرك وتُفهم كما يُفهم كلام العربي غالباً من خطابه، فالله -جل وعلا- قال في أربع آيات في سورة  القمر: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر:17]، هل من مُدكر؟

فهذا كله للتحضيض والتحريض على تفهم هذا القرآن، فنحن مأمورون بذلك، ومعاني هذا القرآن ميسرة للذكر فينبغي على الإنسان أن يتدبر، وإن مما يُعينه على مثل هذا التدبر أن يتفهم معانيه دون أن يتقحّم القول على الله من غير علم ولا فهم ولا قاعدة ينطلق منها، فهذا أمر شنيع، وقد حذر الله  منه، وحذر منه النبي ﷺ: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) [البقرة:169].

فمن الأمور الصعبة أن يتكلم الإنسان في معاني القرآن من غير بصر، وهذا أمر قد يقع فيه الإنسان بعجلة ولربما تكلم فيما لا علم له به ألبتة، والله  سائله عن ذلك، هذا عمر  حينما قرأ على المنبر قوله -تبارك وتعالى: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) [عبس:31]، قال: ما الأب؟ ثم قال: “إن هذا لهو التكلف يا عمر”[1]، فتورع من القول في ذلك ومن التشاغل فيه.

وهذا ابن عباس يُسأل عن آية كما قال بعضهم: لو سُئل عنها بعضكم لقال فيها، فأبى أن يقول فيها مع أنه حبر هذه الأمة، وكانوا يسألون سعيد بن المسيب -رحمه الله- عن الحلال والحرام وكان أعلم الناس، فإذا سألوه عن تفسير آية سكت كأن لم يسمع[2]، ليس ذلك لأنه لا يفهم معناها وإنما كان يصنع ذلك تحرزاً وتورعاً وتحرجاً.

وهذا عُبيد الله بن عمر -رحمه الله- يقول: “أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليُعظِمون القول في التفسير”[3]، ويحكي إبراهيم النخعي -رحمه الله- عن أصحاب ابن مسعود يقول: “كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه”[4]، والشعبي الذي ذكرت لكم قبلُ طرفاً من خبره وأنه كان باقعةً في الحفظ والفهم والعلم بكتاب الله  كان يقول: “أقل ما أحفظه الشعر، ولو شئتم لحدثتكم شهراً لا أُعيد بيتاً”[5]، أي: أنه يسرد لهم ما يحفظه من الأشعار شهراً كاملاً بلا توقف ومع ذلك يقول: “والله ما من آية إلا وقد سألت عنها، ولكنها الرواية عن الله”[6]، وكان مسروق بن الأجدع -رحمه الله- يقول: “اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله”[7].  

والمقصود أن معاني القرآن على أنواع:

منها كما قال ابن عباس : ما لا يجهله أحد، لا يخفى على أحد، يعرفه كل أحد، فهذه المعاني الظاهرة الواضحة كما إذا قال الله  مثلاً: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) [البقرة:43]، (اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ) فهذا لا يخفى على أحد.

ومنه ما يُعرف من كلام العرب كما إذا قال الله  مثلاً: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) [المزمل:6]، ما معنى “ناشئة الليل”؟ هذا يُعرف من كلام العرب، “هي أشد وطئاً”، ما معنى وطئاً؟ هذا يُعرف من كلام العرب، فهذا يُحتاج فيه إلى معرفة اللغة، وقد سأل عمر وهو على المنبر عن معنى قوله -تبارك وتعالى: (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) [النحل:47]، فقام إليه رجل من العرب وقال: “التخوف التنقص في لغتنا، فقال: هل تعرف ذلك العرب بأشعارها؟ قال: نعم، وذكر له بيتاً من الشعر:

تَخَوَّف الرَّحْلُ منها تامِكاً قَرِداًكما تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ[8]

تخوف الرحلُ: هو يصف سنام الناقة الآن، ويعني بذلك: تنقّص الرحل.

كما تخوّف عودَ النبعةِ السفنُ: يعني الذي يصنع الخشب وينحته وينقره ليكون عود السفينة بشكل في مقدمها فيه ميلان وفيه انحناء معين من أجل أنها تشق الموج، وكذلك في قول الله -تبارك وتعالى- كما جاء عن ابن عباس: (وَكَأْسًا دِهَاقًا) [النبأ:34]، قال: سمعت أبي في الجاهلية يقول: “اسقني كأساً دهاقا”[9]، ما فسرها بقال الله وقال رسوله، لكن فسرها مما عرف من كلام العرب مما سمع من أبيه في الجاهلية يعني كأساً ممتلئًا.

وكذلك أيضاً في قوله -تبارك وتعالى: (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) [المرسلات:32]، قال ابن عباس : “كنا نجمع الحطب نُعده للشتاء على قدر ذراع”، وفي بعض الروايات: “ثلاثة أذرع، ونُسميه القصر”[10]، مثلما الآن يُقطع الحطب هكذا من أجل أن يوقد الناس عليه في الشتاء، فشرر النار على هذا التفسير فُسر بكلام العرب وبلغة العرب مما كانوا يتحدثون به ويتعاطونه من الألفاظ والعبارات.

فأقول: هذا النوع الثاني الذي يُرجع فيه إلى كلام العرب.

ومنه نوع يعرفه العلماء وهو ما يحتاج إلى لطافة الذهن والجمع بين النصوص ويحتاج إلى استنباط وفقه ودقة في النظر، فهذا إنما يكون للعلماء كما قال ابن عباس، كما في قوله -تبارك وتعالى- مثلاً: (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ) [الرحمن:39]، وفي الآية الأخرى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) [الصافات:24]، أثبت السؤال في موضع، ونفاه في موضع، فهذا يقال فيه: إن يوم القيامة يوم طويل فلا يُسألون في بعض الأوقات ويُسألون في بعضها، أو أنهم لا يُسألون سؤال مستعتب وإنما يُسألون سؤال تبكيت، وهكذا.

والقسم الأخير من التفسير: هو ما لا يعلمه إلا الله.

والمقصود بذلك على الأرجح هو حقائق الأشياء الغيبية وكُنهها، الأشياء التي لا يطلع عليها إلا الله، كيف صفات الله ؟، كيف وجهه؟

لا ندري، لكن نحن نفهم معنى الوجه ونُثبته لله على ما يليق بجلاله وعظمته، لكن كيف هذه الصفة؟ لا ندري.

كيف ثمر الجنة؟ لا ندري، ليس لنا إلا ما وُصف، أما حقائق هذه الأشياء وكُنهها من ماذا تتكون، ما هي مركبات لبن الجنة فلا ندري، هي فيها أنهار من لبن، وفيها أنهار من عسل، وفيها أنهار من خمر -نسأل الله  أن يوردنا ذلك جميعاً ووالدينا وإخواننا المسلمين- لكن ماهية هذه الأشياء وما هي مركباتها؟

لا ندري، ليس لنا في الدنيا إلا الأسماء، ولا يشبهها شيء من نعيم الدنيا ألبتة، فإن ذلك يُزري بنعيم الجنة.

ألم ترَ أن السيف يَنقص قدرُهإذا قيل إنّ السيفَ أمضى من العصا

فالسيف لا يقارن بالعصا، وبالتالي نعيم الجنة لا يقارن بحطام هذه الدنيا.

أسأل الله  أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد.

……………………………………………………………………………

  1. انظر: تفسير الطبري (24/ 120، 123)، ومباحث في علوم القرآن لمناع القطان (ص:345).
  2. تفسير الطبري (1/ 80).
  3. تفسير الطبري (1/ 79)، وفضائل القرآن للمستغفري (1/ 305).
  4. انظر: فضائل القرآن للقاسم بن سلام (ص: 378)، وتفسير ابن كثير (1/ 13).
  5. تاريخ بغداد وذيوله (12/ 224).
  6. انظر: تفسير الطبري (1/ 81).
  7. فضائل القرآن، للقاسم بن سلام (ص: 377)، وتفسير ابن كثير (1/ 13).
  8. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (7/ 196)، والمفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (17/ 341).
  9. أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية، برقم (3840).
  10.  تفسير ابن كثير (8/ 300)، وتفسير القرطبي (19/ 163).

العزيز المفقود - الموقع الرسمي
Logo