القرآن كتابي: هكذا يكون التلقي

عاطف الفيومي

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على المبعوث رحمةً للعالَمين، نبيِّنا محمَّد صلَّى الله عليْه وآله أجمعين. وبعد:

فهذه كلماتٌ أُبيِّن بها الطَّريق نحو منهج التلقِّي الَّذي يجب للقرآن، وأعْني هنا: التلقِّيَ الإيمانيَّ العمَليَّ، لا التلقِّي الإسناديَّ، وذلك أنَّ كثيرًا مِن النَّاس غفلوا عن هذا التلقِّي، وتناسَوه كثيرًا، وأُجْمِلُ كلماتي في محاور مُتتالية:

1- القرآن والمكانة السَّامية:

إنَّ الوقوف على آيةٍ واحدة من كتاب الله تعالى مِن عشرات الآيات، تكفي بأن تبيِّن لنا مكانةَ هذا الكتاب المنزَّل: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9].

وبالنَّظر إلى هذه الآية الكريمة، تأمُّلًا وفهْمًا، تستبينُ لنا جلالة هذا الكتاب، وكتُب التَّفسير وقفتْ على شيء مِن ذلك، فقد قال شيخ المفسِّرين ابنُ جرير الطَّبري في هذه الآية: (يقول تعالى ذكْره: إنَّ هذا القرآن الذي أنزلْناه على نبيِّنا محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم يُرشد ويُسدِّد مَن اهتَدَى به ﴿ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ يقول: للسَّبيل الَّتي هي أقوَمُ مِن غيرِها مِن السُّبُل، وذلك دِين اللهِ الَّذي بَعَث به أنبياءَه وهو الإسلام، يقول جلَّ ثناؤه: فهذا القُرآن يَهدي عبادَ اللهِ المهْتدِين به إلى قصْد السَّبيل الَّتي ضلَّ عنها سائرُ أهلِ المِلَل المكذِّبين به).

وقال ابنُ كثير رحِمه الله تعالى في هذه الآية: (يَمدح تعالى كِتابَه العزيز الَّذي أنزَله على رسولِه محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم وهو القُرآن، بأنَّه يَهْدي لأقْوم الطُّرُق، وأَوضَحِ السُّبُل ﴿ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ به ﴿ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ ﴾ على مقتضاه ﴿ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾؛ أي: يوم القيامة).

وقال العلَّامة السَّعدي رحِمه الله تعالى: (يُخبر تعالى عن شرَف القرآن وجلالتِه، وأنَّه ﴿ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾؛ أي: أَعدَل وأعلى، مِن العقائد والأعْمال والأخلاق، فمَنِ اهتدَى بما يَدعو إليْه القرآن كان أكْمَلَ النَّاسِ وأقومَهم وأهداهم في جَميع أموره، ﴿ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ ﴾ مِن الواجبات والسُّنن، ﴿ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ أَعَدَّه اللهُ لهم في دار كرامتِه، لا يَعلم وصْفه إلَّا هو).

وقال صاحب “الظّلال” رحِمه الله تعالى: (هكذا على وجْه الإطلاق فيمَن يهديهم وفيما يهديهم، فيَشمَل الهُدى أقوامًا وأجيالًا بلا حدودٍ مِن زمانٍ أو مكان، ويَشمَل ما يَهديهم إليْه كلَّ منهج وكلَّ طريق، وكلَّ خير يهتدي إليه البشَر في كلِّ زمانٍ ومكان، يَهدي للَّتي هي أقوَم في عالَم الضَّمير والشعور، بالعقيدة الواضحة البسيطة الَّتي لا تعقيد فيها ولا غموض، والَّتي تُطْلِق الرُّوحَ مِن أثقال الوهْم والخُرافة، وتُطْلق الطَّاقاتِ البشريَّة الصَّالحة للعمل والبناء، وترْبط بين نواميس الكون الطَّبيعيَّة، ونواميس الفِطرة البشريَّة في تناسُق واتِّساق.

ويَهدي للَّتي هي أقوم في التَّنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسُلوكه، وبين عقيدتِه وعملِه، فإذا هي كلُّها مشدودة إلى العُروة الوثقى الَّتي لا تنفصِم، مُتطلِّعة إلى أعلى وهي مستقرَّة على الأرض، وإذا العملُ عبادةٌ متى تَوَجَّه الإنسانُ به إلى الله، ولو كان هذا العمل متاعًا واستِمتاعًا بالحياة، ويهْدي للَّتي هي أقوم في عالَم العِبادة بالموازنة بين التَّكاليف والطَّاقة، فلا تَشُقُّ التَّكاليف على النَّفس حتَّى تملَّ وتيْأس مِن الوفاء، ولا تسهل وتترخَّص حتَّى تشيع في النَّفس الرخاوة والاستِهْتار، ولا تتجاوز القصْد والاعتِدال وحدود الاحتِمال.

ويهدي للَّتي هي أقوم في علاقات النَّاس بعضهم ببعض: أفرادًا وأزواجًا، وحكوماتٍ وشعوبًا، ودولًا وأجناسًا، ويُقيم هذه العلاقات على الأُسُس الوطيدة الثَّابتة الَّتي لا تتأثَّر بالرَّأي والهوى، ولا تَميل مع المودَّة والشَّنآن، ولا تصرِّفها المصالح والأغراض، الأُسس التي أقامها العليمُ الخبير لخلْقه، وهو أعْلم بِمَن خلَق، وأعرَف بما يَصلُح لهم في كلِّ أرضٍ وفي كلِّ جيل، فيهديهم للَّتي هي أقْوم في نظام الحكْم، ونظام المال، ونظام الاجتِماع، ونظام التَّعامُل الدُّوَلي اللائق بعالم الإنسان).

2- الخلل في منهج التلقِّي:

هذه هي منزلة القرآن ومكانته، التي جعلها الله تعالى ورسولُه صلَّى الله عليه وسلَّم بالمحلِّ الأعلى، والمكان الأرْفع، وإذا أمعنَّا النَّظر قليلًا إلى الوراء، حيثُ تاريخ الإسلام وعهْده الأوَّل مِن جيل الصَّحابة رضِي الله عنْهم، وجدْنا أنَّ منهج الصَّحابة في تلقِّي القرآن ومنهجه، وأحكامه وشرائعه، يَختلف تمامًا عن تلقِّي كثيرٍ من المسلمين اليوم لِهذا الكتاب الرَّبَّاني، وطُرُق التَّعامُل معه، ولا أعْني هنا التلقِّي العِلْمي الإسنادي، وإنَّما عَنيتُ: التلقِّي الإيمانيَّ العمَليَّ لهذا الكتاب المنزَّل، قال سيِّد قطب رحمه الله تعالى: (هُناك عاملٌ أساسي آخَر غير اختلاف طبيعة النَّبع، ذلك هو اختلاف منهج التلقِّي عمَّا كان عليه في ذلك الجيل الفريد… إنَّهم في الجيل الأوَّل لم يكُونوا يقرؤُون القرآنَ بقصْد الثقافة والاطِّلاع، ولا بقصْد التذوُّق والمتاع، لم يكن أحدُهم يَتلقَّى القرآنَ ليَستَكثِر به مِن زاد الثَّقافة لمجرَّد الثَّقافة، ولا لِيُضيف إلى حصيلتِه مِن القضايا العلميَّة والفقهيَّة محصولًا يملأ به جُعْبتَه، إنَّما كان يتلقَّى القرآن ليتلقَّى أمْر الله في خاصَّة شأْنه وشأن الجماعة الَّتي يعيش فيها، وشأن الحياة الَّتي يَحياها هو وجماعتُه، يَتلقَّى ذلك الأمْر لِيَعمل به فوْرَ سماعِه، كما يَتلقَّى الجندي في الميدان “الأمْر اليوميَّ” لِيعمَل به فور تلقِّيه، ومِن ثمَّ لم يكُن أحدُهم لِيَستَكثِر منه في الجلسة الواحدة؛ لأنَّه كان يحسُّ أنَّه إنَّما يَستَكْثِر مِن واجبات وتكاليف يَجعلها على عاتقه، فكان يكْتَفي بعشْر آياتٍ حتَّى يَحفظَها ويَعمل بها كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنْه[1].

هذا الشعور، شعور التلقِّي للتَّنفيذ، كان يَفتح لهم مِن القرآن آفاقًا مِن المتاع، وآفاقًا مِن المعرفة، لم تكُن لتُفْتَح عليهم لو أنَّهم قَصَدوا إليْه بشعور البحث والدِّراسة والاطِّلاع، وكان يُيَسِّر لهم العمل، ويخفِّف عنهم ثقل التَّكاليف، ويخْلط القرآن بذواتِهم، ويُحوِّله في نفوسهم وفي حياتِهم إلى منهج واقعيٍّ، وإلى ثقافة متحرِّكة لا تبقَى داخلَ الأذْهان، ولا في بطون الصَّحائف، إنَّما تتحوَّل آثارًا وأحداثًا تُحَوِّل خطَّ سير الحياة)[2].

إنَّها قضيَّة كبيرة حقًّا، لِمَن كان له قلْب أو ألْقى السَّمع وهو شهيد، قضيَّة منهج التلقِّي القلْبي العقدي للقُرآن، لقد كان الواحد مِن السَّلف الصَّالح مِن أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يأخُذ القُرآنَ لنفسِه وشأنه، ولعقيدته وعبادته، ولنجاته وفوْزِه، يأخُذ القرآنَ ولسانُ حالِه يقول: القرآنُ كتابي، نَعم القرآن كتابي لا كتاب غيري مِن النَّاس، القرآن أُنْزِل لي، نعم، لي أنا، لهدايتي، لإعلاء مكانتي، لبيان عقيدتي، لتوْجيه عبادتي، لبيان شريعتِي، لسعادة قلْبي ونفْسي، إنَّه كتابي الَّذي به تُنال الدَّرجات، وباتِّباعه تنزل البركات، وبهدايتِه تُسْتَمطر الرَّحمات، وبمنهجه تُطْلَب الجَنَّات، إنَّه رسالة الله إليَّ، ونداؤُه الواضح البرهان.

هذا فارق التلقِّي بيْننا وبين الصَّحابة رضِي الله عنهم: أنَّهم أَخذوا القرآنَ لهم لا لغَيْرِهم فحسْب، ولا يقول أحدُهم: هذه الآية تُخاطب فلانًا مِن النَّاس، لا تُخاطبني، وهذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهََ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 130]، تأمُر بترْك أكْل الرِّبا وأموال النَّاس بالباطل، إنَّني لا أفعل ذلك، إذ إنها لفلان آكلِ الرِّبا، وآكلِ الكسب الحرام.

وآية ثالثة ورابعة وخامسة تدُور بين الأمْر والنَّهي، وبين الحلال والحرام، والموعظة بالتَّرغيب والتَّرهيب، كلُّ هذه الآيات ليستْ لي أنا، إنَّما هي لفلان وفلان مِن النَّاس… إلخ.

3- آثار المخالفة:

إنَّ واقع كثيرٍ مِن المسلمين اليوم يُبَيِّن لنا خطَرَ هذا المنهج في التلقِّي للقرآن وشريعته على واقع المسلمين اليوم، وعلى عقيدتهم ومجتمعِهم، لماذا؟ لأنَّ التلقِّي بهذه الصورة المنحرفة يؤدِّي إلى عدَّة مظاهر انحرافيَّة خطيرة، منها:

1- ضَعْف الإيمان في القلوب، وضَعْف العقيدة والتَّوحيد في السلوك؛ ذلك أنَّ القرآن باب الإيمان ومدْخله.

2- ضَعْف الانتماء الصَّحيح لهذه الشَّريعة الغرَّاء؛ حيث الانفِصام بين الدِّين والحياة، وبين القول والعمل، وبين المرْء ونفسِه ومجتمعِه، انفِصامٌ خطيرٌ في الشَّخصيَّة المسْلِمة؛ لأنَّ القرآن عندئذٍ لا يكون هو مصدر التلقِّي والتَّوجيه والتَّشريع للمرْء، إنَّما له مصادر ومناهج أُخرى يَتلقَّف منها ما يشاء وما يَشتهي.

3- فقْد العلاقة بين المسلم وخالقِه؛ لأن القرآن كلام الله تعالى، ومنهجه المنزَّل، الذي جعَله الرَّابطة بين العبد وخالقِه، وذلك بتلاوته وتدبُّره، والعمل بمنهجه، والدَّعوة إليه، والاستزادة منه، فإذا ضَعُفَت علاقة العبد بِهذا المنهج والمصْدر الربَّاني، ضعفَت العلاقة بينه وبين خالقه سبحانه وتعالى.

إنَّ الإنسان يَضلُّ وينحرف، وتأخُذُه أمواج الفِتَن والشَّهوات والشُّبُهات، إذا لم يتَّجه بهداية القُرآن: ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [النور: 46]، وفي الحديث: ((أمَّا بعد، ألا أيُّها النَّاس، فإنَّما أنا بشَر يُوشك أنْ يأتيَني رسولُ ربِّي فأُجيب، وأنا تاركٌ فيكم ثقلَين: أوَّلُهما كتاب الله فيه الهدى والنُّور، فخُذوا بكتاب الله، وتمسَّكوا به))، فحَثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه، ثمَّ قال: ((وأهْل بيْتي))، وفي لفظٍ: ((كتاب الله هو حبْل الله المتين، مَن اتَّبعَه كان على الهدَى، ومَن ترَكه كان على الضَّلالة))؛ رواه مسلم.

إنَّ الإنسان يقَع في الخُسران والانحِراف عن منهج الله وشريعته، إذا لَم يَعمل بالقرآن: ﴿ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 2، 3].

إنَّ الإنسان يَقع في سُبل الشَّيطان ومكايده إذا لَم يَستَقِم على صراط القرآن: ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 123 – 127].

إنَّ الإنسان تَنقَطع طُرُق الاتِّصال بينه وبين الله تعالى، كما يَفْقد معالِمَ الاهتداء، إذا لَم يَستمْسِك بحبل القرآن: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9]، وفي الحديث: ((أَبْشِروا، أليْس تَشْهدون أن لا إله إلَّا الله، وأنِّي رسول الله؟)) قالوا: نعم، قال: ((فإنَّ هذا القرآنَ طَرفُه بيدِ الله وطَرفُه بأيديكم، فتمسَّكوا به، فإنَّكم لن تضلُّوا، ولن تهْلكوا بعده أبدًا))؛ رواه ابن حبَّان في صحيحِه.

إنَّ الإنسان يَفْقد أَجَلَّ خيريَّة في الإسلام إذا لم يقرأ ويتعلَّم القرآن؛ ((خيرُكم مَن تعلَّم القرآن وعلَّمه))؛ رواه البخاري.

إنَّ الإنسان يقع في الكُفر والشِّرْك، وينجرف بعيدًا عن الفوز والفلاح، إذا لم يؤْمن بالقرآن؛ ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 4، 5]. وقال تعالى: ﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾ [طه: 2].

إنَّ الإنسان يَفْقد مَجْدَه ومكانتَه وعزَّه، إذا لم يَتَّبع هذا القرآن؛ ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10].

إنَّ الإنسان يقع في براثن الذُّل والهوان إذا لم يَعتصِم بالقرآن حقَّ الاعتِصام: ((إنَّ الله يَرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضَع به آخرين))؛ رواه مسلم.

إنَّ الإنسان يَفْقد ولاية الله تعالى له، وحمايته له من أعدائِه المتربِّصين إذا لم يقرأ القرآن: ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ﴾ [الإسراء: 45].

إنَّ الإنسان يقع تحت طائلة العِتاب والندم يوم القيامة، إذا لم يكُن له نصيب مِن القرآن تلاوة وفهمًا وعملًا: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان: 30].

4- القرآن كتابي: هكذا يكون التلقِّي:

وهنا، وبعد هذا التِّبيان أقول: يجبُ أن نُعيد منهج التلقِّي للقرآن في نفوسِنا مِن جديد، يجب أن نتلقَّى القرآن للعِلْم والعمل معًا، نتلقَّاه لأنفُسنا، لسعادتنا وهدايتنا، لتوجيهنا وتربيتِنا، لإصلاحنا وتقْويمنا، وأن يكون شعارُنا: “القرآن كتابي”، وإنَّ مِن الواجب على أمَّة الإسلام وعلمائها، وطلَبةِ العلم والدُّعاة إلى الله، أن يكونوا القدوة الصَّالحة لغيرهم، في الاعتناء بتحقيق وتطبيق القرآن قولًا وعملًا، وأنْ يَجعلوه منهاجَ حياةٍ واقعيًّا، كما كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قرآنًا يمشي على الأرض؛ كما ثبت في الأحاديث الصَّحيحة ذلك.

وهذه بعض جوانب العناية العمليَّة التطبيقيَّة بالنسبة للقرآن الكريم كما نتصوَّرها، والتي ينبغي أن يهتمَّ بها قارئ القرآن لتكُون له عونًا على تصحيح منهج التلقِّي لهذا الكتاب، وهي كما يلي:

1- القراءة اليوميَّة للقُرآن:

يقولُ الله سبحانَه وتعالى: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17]، وبما أنَّنا بدون التِّلاوة الدَّائمة نفْقِد التذكُّر اللازمَ، ونفقد الحالات الإيمانيَّة العالية، فاللهُ عزَّ وجلَّ وَصَف تأثُّر المؤمنين بالقرآن بقولِه تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 23]، وقال سبحانه: ﴿ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ [مريم: 58].

إنَّ هذه المعاني لا يُحَصِّلها الإنسانُ إلَّا بتلاوة دائمةٍ لكتابِ الله، وتذكُّر ما فيه لِيحْيا قلْبه فتَجِيش فيه هذه المعاني[3]، وقد كان للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وِرْدُه اليومي يقرؤُه في صلاة اللَّيل؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (إنْ كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لَيُوقظُه الله عزَّ وجلَّ باللَّيل، فما يجيء السَّحَر حتى يَفرغ مِن حزبِه)؛ رواه أبو داود.

وقد كانت تلاوة القرآنِ دأبَ الصَّحابة وعملَهم الدَّائم؛ فقد رَوى أبو داود، عن أوْس بن حُذَيفة: سألتُ أصحابَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: كيف يحزِّبون القرآنَ؟ قالوا: (ثلاث، وخمس، وسبْع، وتسْع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصَّل وحْده).

إذًا؛ كان القرآن بالنسبة للصَّحابة محورَ كلِّ شيء عندهم، ثمَّ أصبح القرآن مَنْسِيًّا عند الكثيرين مِن مسْلمي عصرنا، فلا بدَّ لنا مِن عودة حميدة للكتاب، يصلح بها آخرُنا كما صلح بها أوَّلُنا، وانظر هذا النَّصَّ لِتُدْرِك مقدار حِرْص الصَّحابة على الاشتِغال بالقرآن دُون سِواه؛ عن جابر بن عبد الله بن يسار قال: سمعتُ عليًّا يقول:(“أَعْزِمُ على كلِّ مَن عنده كتاب إلَّا رجَع فمحاه؛ فإنَّما هلَك النَّاسُ حيث اتَّبعوا أحاديثَ علمائهم، وترَكوا كتابَ ربِّهم).

فلا بدَّ أن يكون لنا ورْدُنا اليومي من كتاب الله، تلاوة في المصحف لِمَن لم يحفظ أو تلاوة مِن المحفوظ، وقد ذكر العلماء أنَّ القراءة من المصحف أعظمُ أجرًا، والحدُّ المعتدل أن يختم القُرآن في الشَّهر مرَّة، فإن لم يكُن ففِي كلِّ أربعين يومًا، وفي ذلك ضمانُ حياة القلْب وضمان حياة المعاني الإسلاميَّة في أنفُسِنا[4].

2- التَّأمُّل والتدبُّر أثناء القراءة:

مع الوقوف على كلِّ عِبْرة ومعنى، كما أنَّه يفضَّل أن تكون القراءة في خلوة هادئة، ولاسيَّما خلوات اللَّيل، حيث يشفُّ القلب، وتنكشِف أغطية النَّفس، والله تعالى يقول: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، ويقول سبحانه: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْألْبَابِ ﴾ [ص: 29].

إنَّ هذه القراءة على هذا النَّحو سبيلٌ لفتح أغْلاق القلوب، وسُطوع أنوار القرآن في آفاق النُّفوس، وبهذا يحصُل الانتِفاع الحقيقيُّ بكتاب الله تعالى، قال ابنُ مسعود رضِي الله عنْه: (لا تهذُّوا القُرآن هذَّ الشِّعر، ولا تَنْثُروه نثر الدَّقل، وقِفوا عند عجائبه، وحرِّكوا به القلوب، ولا يكُن همَّ أحدِكم آخرُ السورة)[5].

ولننظُر إلى حال الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم الَّذي قرأ القرآن أوَّلًا بتَرَوٍّ وتدبُّر، حتَّى إنَّه وهو في صلاته إذا مرَّ بآية عذاب تعوَّذ، وإذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بآية فيها رحمة سأل الله مِن فضله، وكان صلَّى الله عليه وسلَّم  يبكي مِن شدَّة تأثُّره به، وتأمُّله لمعانيه، سواء مِن قراءتِه بنفسه أو سماعِه مِن غيره؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((اقْرأ عليَّ)) قلتُ: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك نَزَل؟ قال: ((نعم)) فقرأتُ سورة النساء إلى هذه الآية: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ قال: ((حَسْبُكَ الآن))، فالتفتُّ إليه فإذا عيْناه تذرفان. رواه البخاري ومسلم.

3- استِشعار سماع القِراءة من الله تعالى:

وينبغي أن نقرأ القرآن كأنَّما نسمعه مِن الله سبحانه وتعالى، وهذا أمْر يكاد يكون مِن البدهيَّات التي نغفل عنها، فالقرآن كلام الله، خاطبَنا به، ووجَّهه إليْنا، وأبسَط مقتضَيات هذا، أنْ نُصغي إلى هذا المتكلِّم العظيم، ونُحسِنَ الاستِماعَ إليْه؛ ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: 204].

والإنصاتُ إلى الله لا يكُون بالأذُن، بل بالقلب وبِوَعْيِك كلِّه، وهي منزلةٌ تقتضي مِن الإنسان مرانًا ورياضة وتدرُّجًا في مقاماتها الرَّفيعة[6]؛ ولهذا يقول ابنُ مسعود رضي الله عنْه: (إذا سمعتَ الله يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ فأصْغِ لها سمعَك، فإنَّه خيرٌ تُؤمَر به، أو شرٌّ تُصرَف عنه).

4- أن يكون غرَض القراءة إعداد النفس للقاء الله عزَّ وجلَّ:

وينبغي أن نقرأ القرآن على أنَّ الغرَض الأسمى له هو: إعداد الإنسان للدَّار الآخرة، فما في القرآن مِن روح، وما جاء فيه مِن قصص الجهاد، وما ضمَّنه مِن نُظُم الاجتماع، وما أُودِعَهُ مِن القوانين والمعارف – ليس مقصودًا لذاته، أو ليس غاية تنتهي إليْها أهدافُ الإسلام، وإنَّما يُراد بها: إيقاظُ القلوب بدلالتها على الله، وإحاطتها بكلِّ وسيلة مادِّيَّة أو معنوية لتكُون في القلوب سليمة حيَّة، حتَّى يمضي بها المرء إلى غايتها الأخيرة، فعلينا أن نُلاحظ هذا المعنى في كلِّ آية، فإنَّ العبرة لا تكمل إلَّا به، وجمال التَّوجيه لا يظهر بدونه[7].

5- آداب تلاوة القرآن الكريم واستماعه:

لتلاوة القرآن الكريم آداب كثيرة وعديدة، ينبغي أن يُراعيها قارئُ القرآن، حسْبنا أن نشير إلى طائفة منها باختصار، فنقول:

ينبغي على قارئ القرآن أن يتأدَّب بالآداب التالية:

1- أن يَستَقبل القِبلة ما أمكنه ذلك.

2- أن يَسْتاك تطهيرًا وتعظيمًا للقرآن.

3- أن يكُون طاهرًا مِن الحدثَين.

4- أن يكون نظيف الثَّوب والبدَن.

5- أن يقرأ في خشوع وتفكُّر وتدبُّر.

6- أن يكون قلبُه حاضرًا فيتأثَّر بما يقرأ تاركًا حديثَ النَّفس وأهواءها.

7- يستحبُّ له أن يَبكِي مع القِراءة فإن لَم يبْكِ فَلْيَتَباكَ.

8- أن يزيِّن قراءتَه ويحسِّن صوتَه بها، وإن لم يكُن حسَنَ الصَّوتِ حسَّنه ما استطاع بحيث لا يخرج به إلى حدِّ التَّمطيط.

9- أن يتأدَّب عند تلاوة القرآن الكريم، فلا يَضْحك، ولا يَعْبث، ولا ينظُر إلى ما يُلْهي؛ بل يتدبَّر ويتذكَّر كما قال سبحانَه وتعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْألْبَابِ ﴾ [ص: 29]، كما أنَّ على سامع القرآن الكريم أن يُقبل عليه بقلبٍ خاشع يتفكَّر في معانيه، ويتدبَّر في آياته، ويتَّعظ بما فيه مِن حِكَم ومواعظ، وأنْ يحْسِن الاستِماع والإنصات لما يُتْلى مِن قرآن حتَّى يفرغ القارئُ مِن قراءتِه؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: 204].

6- العناية بالعمل التَّطبيقي للقُرآن:

ومن جوانب العناية بالقُرآن الكريم في حياة قارئ القرآن: العناية بالعمل به وتطْبيق أحكامه كما قال سبحانه: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الجاثية: 18]، ومهْما اتَّبع الناسُ هذا الكتاب فإنَّهم وقْتذاك على الطَّريق الأهدى والأقوم والأرْحم والأحْكم والأعْلى؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9].

وقال سبحانه: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16].

كما أنَّه ليس للإنسان إذا أراد الحق إلَّا هذا الطريق، ولن يكُون مستقيمًا أو على صراط مستقيم إلَّا بهذا القرآن: ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ﴾ [يونس: 32]. ولا يُعرض عن القرآن، ولا يَتَنَكَّب طريقه وسبيله، ولا يَجحد به إلَّا جاهلٌ؛ إذ هو العِلم الَّذي لا جَهْل معه: ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 49].

وقد نبَّهنا اللهُ في كتابه أنَّه أنزل وحيًا وكُتبًا على أُممٍ قبلَنا، وحذَّرنا أن نقع فيما وقعوا فيه مِن إثمٍ أو تقصير، أو تحريفٍ أو انحراف، أو تهاوُن أو تواطُؤ أو تباطُؤ، أو كُفر أو ضَلال، وبيَّن سبحانه لنا أنَّ كتاب الله أُنْزل ليُحَكَّم: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴾ [النساء: 105].

وقبول تحكيم كتاب الله، ورِضانا بحكْمه، والتِزامنا به، واعتِصامنا به – هو دليلُ الإيمان، وإلَّا فهو الكُفْر والنِّفاق؛ ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].

والمسلم كذلك لا يتَّخذ قرارًا، ولا يجزم رأيًا، ولا يَعتقِد عقيدةً، ولا يُسارع إلى أمْر، ولا يَستجيب لدعْوة، ولا ينفر إلى عمل، إلَّا بعد معرفة حكْم الله، وعندئذ يحزم أمْره على أساس أمْر الله[8].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [الحجرات: 1]، هكذا وبكلِّ ذلك يكُون العمل بالقُرآن حياةً واقعيَّة يُبَيِّنها ذلك الكتاب، ويقوِّم منهاجها، ويُصحِّح مَسارَها، عندئذ نكون عاملين حقًّا بالقُرآن، منفِّذين فعلًا لأحكامه، مسلمين حقًّا لله.

7- الاعتِناء بمعاني القرآن الَّتي عاشها الصَّحابة عمليًّا:

إنَّ وقوف القارئ على تعامُل الصحابة مع القرآن، واعتناءَه بالمعاني والإيحاءات الَّتي حصَّلوها مِن الحياة في ظلال القرآن – يُعَرِّفه كيف تُقْبِل القلوبُ الطَّاهرةُ على القُرآن، وتتفاعل معه، فيسْعى ليكون واحدًا مِن هؤلاء.

روى مسلم، وأبو داود، عن أنَس بن مالك رضِي الله عنْه؛ أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يصلِّي نحو بيت المقدس، فنزلَت: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 144]، فمرَّ رجُلٌ مِن بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر، قد صلَّوا ركعة، فنادى: ألا إنَّ القبلة قد حُوِّلَت، فمالوا كما هم ركوعًا إلى الكعبة.

فهذه الرواية تدلُّنا على نظرة الصَّحابة للتَّوجيهات والتَّكاليف الرَّبَّانيَّة، وعلى قلوبهم المتبوِّئة للإيمان، وهي تتفاعل معها، وعلى الاستِجابة الفوريَّة في التنفيذ والالتزام.

8- تحرير النصوص القرآنية مِن قيود الزمان والمكان:

القرآنُ كتاب الله الخالد، صالِح لكلِّ زمان ومكان، ونصوصُه تُعْطي توجيهاتٍ لكلِّ بني الإنسان، ويتفاعل معها المؤمنون، مهْما كان مُستَواهم المادِّيُّ والثَّقافي والحضاري، وفي أيَّة بقعة في هذا العالم، وفي أيَّة فترة من فترات التَّاريخ.

أَقْبَلَ الصَّحابةُ على نصوصه فعاشوا بها، ولَم يُقيِّدوها فيهم أو يقصروها عليهم، وأقبل التَّابعون عليْها فعاشوا بها، وهكذا كلُّ طائفة مِن العلماء، فعلى قارئ القرآن أن ينظُر إلى القرآن بهذا المنظار، ولا يَجوز له أن يُقيِّد النصوص بحالة من الحالات، أو فترة من الزَّمان، إلَّا ما كان مقيَّدًا، ولا أن يقصرها على شخص أو قومٍ إلَّا ما كان مقصورًا عليه.

بل عليه أن يحرِّر النصوص مِن قيود الزَّمان والمكان، والأشخاص والأقوام؛ لتُعطي دلالاتها لكلِّ النَّاس، وتُطلق إشعاعاتِها لكلِّ جيل، وتَنشُر أضواءها على العالَمين، أمَّا قصْر النصوص على حالة أو فترة، أو شخص أو بلدة أو قرن، فإنَّه سيقيِّدُها وسيفْرغها مِن معانيها وأهدافها، وتتحوَّل إلى عبارات فارغة، وكأنَّها تتحدَّث عن فترة من التَّاريخ سابقة لأمَّة من النَّاس ماضية.

فمثلًا: قوله تعالى عن الحاكميَّة: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44] خاصٌّ عند هؤلاء ببني إسرائيل، وهذا خطأ؛ لأنَّها تَنطبق على كلِّ إنسان أينما كان ومهْما كان، رفَض حكمَ اللهِ طائعًا مختارًا.

وقوله تعالى أيضًا: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ﴾ [المائدة: 50]، فالجاهليَّة عند هؤلاء هي الحالة الَّتي كان عليها العرب قبل الإسلام، والمستوى المتدنِّي مِن الجهل والجهالة، وعدم العِلْم والثَّقافة والحضارة، إنَّ هذا الفهم يُقزِّم الآية ويفرغها من معانيها؛ لأنَّها بهذا تتحدَّث عن أموات مضَوا في سالف الزَّمان، مع أنَّها صالحة لكلِّ زمان، فالجاهليَّة هي كلُّ حالة أو وضْع أو تشريع أو نظام أو مجتمع أو مناهج أو توجيهات، يرفُض أصحابُها الاحتِكامَ فيها إلى شرع الله، ويَقْبَلون أن يحكموا بغيره، فهذه هي الجاهليَّة في أيِّ أناس أو أي زمان، وأهلها جاهلون مهْما بلغ رقيُّهم المادِّيُّ والعِلمي والتكنولوجي والثقافي[9].

9- الشعور بأنَّ الآية موجهة له:

وعلى القارئ البصير للقرآن أن يُوقن أنَّه هو المقصود بالآية، وأنَّها تَعْنِيه هو، وتخصُّه هو، وتُخاطبه هو، وتطالبه هو، وتحدِّثه هو… فإذا قرأها فليفْتح لها أجهزة التلقِّي والاستجابة ليلتزم بما فيها من توجيهات[10].

هذه كلِمات، وهذه توجيهات، استوقفتْني كثيرًا في حياتي مع القرآن، أردتُ بها إعلاءَ الهِمَم، وتصْحيح الطَّريق، وتذْكير الغافل، بحقِّ هذا الكتاب، ليكُون الشِّعار لكلِّ قارئ: “القرآن كتابي”، وهكذا يكُون التلقِّي للقرآن.


[1] ذكره ابن كثير في مقدِّمة التفسير.

[2] معالم في الطريق.

[3] جند الله ثقافة وأخلاقًا (ص 81، 82).

[4] المصدر السابق (ص 82).

[5] زاد المعاد لابن القيم (ج 1 /ص 340).

[6] تذكرة الدُّعاة للبهي الخولي (ص 307).

[7] نفس المصدر (ص 351).

[8] جند الله (71) بتصرُّف.

[9] مفاتيح للتعامل مع القرآن، د. صلاح الخالدي.

[10] مفاتيح للتعامل مع القرآن، د. صلاح الخالدي.

العزيز المفقود - الموقع الرسمي
Logo