بن يحيى الطاهر ناعوس
الحياة الحقَّة: هي تلك التي منبعها الإيمان الصادق، الذي أُسِّس على معالم واضحة، و لَبِنات مادتها الأساسية التزكية الإيمانية المحروسة مِن الزَّلَل، البعيدة عن الغبن النفسي الذي مصدره البعد عن الله تعالى؛ ولهذا فإنَّ الحياة في ظلال القرآن نعمة، نعمة لا يعرفها إلا مَن ذاقها، نعمة ترفع العُمر وتباركه وتزكيه.
حُبُّ القرآن الكريم غاية إيمانية:
لِنغرس في نفوسنا حُبَّ القرآن الكريم، ونسأل الله التوفيق، لا بدَّ لنا مِن وسائل تُعِينُنا في ذلك، وكيف تكون حياة الإنسان إذا وفَّقه الله أن يَغرسَ القرآن الكريم في قلبه؟ والله إنها حياة طيبة ولحظة سعيدة، فمِن هنا سنحاول في هذا المقال توضيحَ بعضِ الوسائل التي تعيننا على غرسه في أعماقنا؛ لنشعر بالسعادة والطمأنينة.
أسرار قيام الليل:
لكي تكُون نفوسُنا مُهيَّئة لاستقبال حُبِّ القرآن الكريم بكل طواعية وراحة، واستعدادٍ نفسي وروحي، نبدأ بقيام الليل، ففيه جلاء للنفوس، وصَقْلٌ للقلوب حتى تطهر مِن الشوائب الزائدة والملتزقة بها، وفي هذا قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ﴾ [المزمل:1-7].
عن جُبير بن مُطعم رضي الله عنه قال: ((كُنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالجحفة، فخرج علينا، فقال: أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن القرآن جاء مِن عندِ الله؟)) قلنا: نعم، قال: ((فأبشِروا، فإن هذا القرآن طرفه بيدِ اللهِ وطرفه بأيديكم، فتمسَّكوا به ولا تهلكوا بعده أبدًا))، “المعجم الكبير” (2/ 126)،
جاء سعد بن هشام بن عامر إلى عائشة رضي الله عنها يسألها عن قيام النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: (( أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا، وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فِي السَّمَاءِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ التَّخْفِيفَ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ))،[1] فقيام الليل على هذا عامل أساسٌ في تحسين العلاقة بين الإنسان والقرآن الكريم، إنه لا صلاح لهذه الأرض، ولا راحة لهذه البشرية، ولا طمأنينة لهذا الإنسان، ولا رِفعة ولا بركة ولا طهارة، ولا تناسُق مع سُنن الكون وفطرة الحياة إلا بالرجوع إلى كتاب الله تعالى تدبُّرًا، وحُبًّا، وقراءة، وتطبيقًا.
والرجوع إلى كتاب الله له صورة واحدة، وطريق واحد، واحد لا سواه، إنه العودة بالحياة كلِّها إلى منهج الله الذي رسمه للبشرية في كتابه الكريم، إنه تحكيم هذا الكتاب وحدَه في حياتها، والتحاكم إليه وحدَه في شؤونها، وإلا فهو الفساد في الأرض، والشقاوة للناس، والارتكاس في الحمأة، والجاهلية التي تَعبد الهوى مِن دُون الله؛ ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص:50]”[2].
ومِن هنا نجدُ في سيرة السلف صفحات نيِّرة ومُشرقة، صنعتها صِلَتُهم القوية بكتاب الله تعالى؛ تدبُّرًا وتلاوةً وقراءةً متأنِّيةً واعيةً، ترمي إلى الكشف عن الرسائل التي يتضمنها النص الشريف في سياقاته المتعددة والمتنوعة، والمزهرة بالخير والبركة والنماء لكل البشرية، وفي هذا يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليلِه إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مُفطرون، وبحزنه إذا الناس فرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيًا مَحزونًا حليمًا حكيمًا سكيتًا، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيًا ولا غافلًا، ولا سخَّابًا ولا صيَّاحًا ولا حديدًا”؛ وصايا غالية ثمينة ذهبية.
مناجاة الله في الصلاة، والقرب الروحي الذي يُحسُّه المؤمنُ وتحسُّه المؤمنة، وهو بين يدي الله فيه مِن الحلاوة والطلاوة الخير الكثير، ولهذا لا بدَّ لنا مِن كثرة الدعاء، والصدق فيه، وفي هذا يقول ابن مسعود رضي الله عنه مبيِّنًا أسرارَ قيام الليل، والصلاة بصفة عامَّة: “ما دمتَ في صلاة فأنتَ تَقرع باب الملِك، ومَن يقرع باب الملِك يُفتح له”.
عبد الله بن مسعود و حب القرآن الكريم:
نجح ابن مسعود رضي الله عنه، بتوفيق من الله، وتبيين من قِبل النبي الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم، في حُبِّ القرآن الكريم، ولهذا كان أول مَن جهر بالقرآن بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بمكة، إذ اجتمع يومًا أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالوا: والله ما سمعَتْ قريشٌ مثْل هذا القرآن يُجهر لها به قط، فمَن رجل يُسْمِعُهُمُوهُ؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا، قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلًا له عشيرته يمنعونه من القوم إنْ أرادوه، قال: دعوني، فإنَّ الله سيمنعني، فغدا ابنُ مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريشٌ في أنديتِها، فقام عند المقام، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم رافعًا صوته: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ ﴾ [الرحمن:1- 2]، ثم استقبلَهم يقرؤها، فتأمَّلوه قائلين: ما يقول ابن أمِّ عبد؟ إنه ليتلو بعضَ ما جاء به محمد، فقاموا إليه وجعلوا يَضرِبون وجهَه، وهو ماضٍ في قراءته حتى بلغ منها ما شاء الله أن يَبلغَ، ثم عاد إلى أصحابه مُصابًا في وجهه وجسده، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداءُ اللهِ أهونَ عليَّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينَّهم بمثلها غدًا، قالوا: حسْبُك، فقد أسمعتَهم ما يكرهون[3].
تدبُّر القرآن طريق النجاح:
تدبُّر القرآن الكريم فهمه، والنظر فيه بروية وتفكر؛ ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ﴾ [المؤمنون:68]؛ أي: ألَم يَتَفَهَّمُوا ما خُوطِبُوا به في القُرْآنِ؟ وقول الله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد:24]، وقال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص:29].
ولو رُزِقَ العبدُ منَّا حسْن التدبُّر في القرآن الكريم، عن طريق الترتيل المتكرر، وحسْن القراءة وخاصَّة في الأوقات الفاضلة، وأعْظمها أثناء الصلاة، سيعيش حياته متنعِّمًا بالقرآن الكريم طَوال عُمره، ينشُر الخير أينما حلَّ أو ارتحل.
ولا يستطيع العبدُ منَّا الوقوفَ على جميع معاني القرآن الكريم، إنما هي فتوحاتٌ ربانيَّة يَهبها اللهُ لمن صدقتْ نيَّتُه، وحسُن إيمانه، وألحَّ في الطلب، وفي هذا يَقول سهل بن عبد الله التُسْتَري: “لو أُعطي العبدُ بكل حرف مِن القرآن ألفَ فهم، لم يبلغ نهاية ما أَودَع اللهُ في آية مِن كتابه؛ لأنه كلام الله، وكلامه صفته، وكما أنه ليس لله نهاية، فكذلك لا نهاية لفهم كلامه، وإنما يَفهم كلٌ بمقدار ما يَفتح اللهُ على قلبه، وكلام الله غير مخلوق، ولا يبلغ إلى نهاية فهمه فهوم محدثة مخلوقة” ا. هـ[4].
ويؤكِّد ما قلنا سلفًا قول ثابت البناني: “كابدتُ القرآنَ عشرين سَنة، ثم تنعَّمتُ به عشرين سَنة”.
و بهذا يصِل المؤمنُ الصادق إلى نتيجة عجيبة وجميلة، ذكرها القرآنُ الكريم في عدة مواطن، منها: قول الله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [النساء: 175]، وفي هذا بِشارة طيبة لكلِّ مَن سار على درب بِشر بن عبَّاد رضي الله عنه، نموذج المحبِّ المتدبِّر.
لنعش في ختام الأمر مع هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه، وهو في اتصال عجيب مع القرآن الكريم؛ لندرك عظمة وقيمة حُبِّ القرآن الكريم وتدبُّره، وفي هذا يقول أصحاب السيَر: “بعد أن فرغ رسولُ الله والمسلمون مِن غزوة ذات الرقاع، نزلوا مكانًا يَبيتون فيه، واختار الرسولُ للحراسة نفرًا مِن الصحابة يَتناوبُونها، وكان منهم: عمَّار بن ياسر وعبَّاد بن بشر في نوبة واحدة، ورأى عبَّاد صاحبَه عمارًا مُجهَدًا، فطلب منه أن ينامَ أوَّل الليل على أن يقوم هو بالحراسة حتى يأخذَ صاحبُه مِن الراحة حظًّا يمكِّنه مِن استئناف الحراسة بعد أن يَصحو، ورأى عباد أن المكان مِن حوله آمن، فلمَ لا يملأ وقتَه إذًا بالصلاة، فيذهب بمثوبتها مع مثوبة الحراسة؟! وقام يُصلِّي، وإذ هو قائم يقرأ بعد فاتحة الكتاب سورًا من القرآن، احترم عضدَه سهمٌ، فنزعه واستمر في صلاته.
ثم رماه المهاجم في ظلام الليل بسهم ثانٍ نزعه وأنهى تلاوته، ثم ركع، وسجد، وكانت قواه قد بدَّدها الإعياء والألم، فمدَّ يمينَه وهو ساجد إلى صاحبه النائم جواره، وظلَّ يهزُّه حتى استيقظ، ثم قام مِن سجوده، وتلا التَّشهد، وأتمَّ صلاته، وصحا عمَّار على كلماته المتهدِّجة المتعبة تقول له: قم للحراسة مكاني؛ فقد أُصبتُ، ووثب عمار مُحدِثًا ضجَّة وهرولة أخافت المتسللين، ففرُّوا ثم التفَتَ إلى عبَّاد، وقال له: سبحان الله، هلَّا أيقظتني أوّل ما رُميتَ! فأجابه عبَّاد: كنتُ أتلو في صلاتي آيات من القرآن ملأتْ نفسي روعة فلم أُحِبَّ أن أقطعها، ووالله، لولا أن أضيِّعَ ثغرًا أمرني الرسول بحفظه، لآثرتُ الموتَ على أن أقطعَ تلك الآيات التي كنتُ أتلوها”.
زاوية الختام:
في هذه الكلمة القصيرة أوجِّه رسالة إلى قلبك، أيها القارئ الكريم، عنوانها الحبُّ، وطابعها الإخلاص، وغلافها الإيمان الصادق، وموزعها الصلة الروحية التي تجمعنا بتوفيق مِن الله، وتاريخها مبعث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وبدايتها الفاتحة، وخاتمتها سورة الناس، وعطرها الريحان، وبيتها الجَنَّة، وأمنيتُنا رضا الرحمن، وشفاعة المصطفى العدنان صلى الله عليه وسلم.
[1] صحيح مسلم (4/ 104).
[2] في ظلال القرآن الكريم.
[3] روى هذه القصة الزبير بن العوام رضي الله عنه، كما وردتْ في كتب السيَر.
[4] مقدمة تفسير البسيط للواحدي (رسالة دكتوراه): 1-34.