عبدالله العواضي
الحمد لله الذي جعل القرآن نوراً للمهتدين، ومناراً للمسترشدين، وسبيلاً قاصداً للمستبصرين، وبابًا لصلاح الدنيا والدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي كلامُه –سبحانه- أصدقُ قيلاً، وأحسن حديثاً، وأبينُ حجة، وأهدى دليلٍ لسلوك أحسن محجة. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أنزل عليه الكتاب قيِّمًا ولم يجعل له عوجاً، يبشر المؤمنين، وينذر الكافرين، ويشفي به الصدور، وينير بضيائه الدروب، ويعظ به العباد، ويدعوهم به إلى صراط مستقيم.
أما بعد:
فإن الله تعالى رحم عباده من هذه الأمة فأنزل على رسوله إليهم القرآنَ الكريم؛ كتابًا خالداً، ودستوراً تالداً، محفوظًا من التبديل والتغيير، والزيادة والنقصان؛ ليكون مرجعَهم إليه تلاوةً وعملاً، وتحاكمًا واستهداء، فهو مشكاة النور التي لا يأفل ضياؤها، ولا تختفي أنوارها، فمن استهدى به هُدي، ومن هجره إعراضًا عنه ضل ضلالاً مبينًا.
فكان هذا الذكر الحكيم ولا زال مؤولَ هداية واسترشاد لعباد الله عربهم وعجمهم عالمهم وجاهلهم، يرِدُونه فيجدون فيه الهداية التي تخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فالمنتفع بهدايته هم من يصدرون عنه بالإيمان به، وتصديق ما جاء فيه، فما أحراهم بهدايته، وأسعدهم بلقيا أثره على نفوسهم، بل وعلى حياتهم كلها! قال تعالى: ﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 1، 2]. وقال: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89].
ومن تتبع قصص المهتدين في القديم والحديث يجد كثيراً منهم يخبر عن نفسه أن القرآن كان مفتاح هدايته، وطريق عودته إلى ربه من كفر إلى إسلام، أو من فسوق إلى طاعة، أو من ترك عمل صالح إلى امتثاله وعمله. وفي التأمل في تلك القصص لأولئك المهتدين بالقرآن عظاتٌ وعبر تجدِّد الإيمان، وتزيد الحب للقرآن، وتجلو النفوس، وتلين القلوب، وتذكِّر بنعمة الله على عبده الصالح، وتدعو الشارد عن سيده إلى العودة إلى بابه وسماع خطابه.
فيحسن بنا أن نقف على بعض تلك القصص التي اهتدى أهلها بآية أو آيتين أو آيات من القرآن الكريم.
وقد جمعت في هذا الكتاب من بطون بعض الكتب القديمة والحديثة وبعض البرامج في المواقع الإلكترونية لهذا الغرض؛ سبعًا وعشرين قصة لمهتدين بالقرآن قديمًا وحديثًا، وجعلتها تحت عنوان: ” هَداهم القرآنُ الكريم” ولا أعني بالهداية هنا: الهداية من الكفر إلى الإسلام فحسب، بل أعني: الهداية من الكفر إلى الإسلام، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن ترك عمل صالح إلى المبادرة إلى عمله عند سماع آية أو تلاوتها.
وكان منهجي في عرض قصص المهتدين بالقرآن الكريم على النحو الآتي:
1- قدَّمتُ بين يدي هذه القصص موضوعًا بعنوان: “أثر القرآن في هداية النفوس”، بينت فيه كونَ الهداية غاية من غايات نزول القرآن الكريم، وذكرت أثره على بعض سامعيه أو قارئيه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده، ثم ذكرت طرق تأثيره، وبقاء ذلك الأثر على الناس عربهم وعجمهم، في قديم زمانهم وحديثه.
2- جعلت لكل قصة عنوانًا منتزعًا من قول للمهتدي في تلك القصة أو من مضمون كلامه وقصته.
3- رتبتُ سرد قصص المهتدين على حسب ترتيب الآيات التي اهتدوا بها من القرآن، ما عدا قصص الصحابة فقد قدمتها على كل القصص.
4- التقديم بين يدي القصة بالحديث عن موضوع أشارت إليه قصة الهداية قبل الشروع في سرد القصة.
5- أسوق قصة الهداية، ذاكراً اسم المهتدي وشيئًا من ترجمته إن وجدت، وكيف اهتدى بالقرآن، وبأي آية أو آيات كان سبب هدايته.
6- أسوق الآية أو الآيات التي اهتدى بها المهتدي وأذكر تفسيرها -غالبًا- من كتب بعض المفسرين.
7- أختم كل قصة هداية بذكر بعض الدروس والعبر منها، وقد اكتفيت في كل قصة بذكر خمسة دروس منها فقط؛ طلبًا للاختصار وتحاشيًا عن الإطالة.
8- ختمت الكتاب بذكر خاتمة سجلت فيها أهم النتائج العامة من هذه القصص.
واللهَ تعالى أسأل التوفيق والسداد، والقبول والانتفاع والنفع، إنه أكرم مسؤول، وأعظم مأمول.
وكتبه: عبد الله بن عبده العواضي
♦ ♦ ♦
أَثرُ القرآنِ الكريم في هداية النفوس
القرآن العظيم هو ذلك النور المبين الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين؛ ليبث أضواءه السَنية في هذا الوجود فتستنير القلوب، وتهتدي النفوس، وتشرق الدروب، وتسترشد به الحياة كل الحياة فـ” القرآن هداية الله للحياة كلها. إن كانت آيات الكون صامتة يستنبط الناس منها الفكرة، ويستخلصون منها العبرة، فآيات القرآن ناطقة تعرِّف الناس بربهم، وتتولى إليه قيادهم”[1].
يقول تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾ [المائدة: 15] ﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 16]، أي: يهديهم هذا القرآن إلى طرق النجاة والسلامة ومناهج الاستقامة، وينجيهم من المهالك، ويوضح لهم أبين المسالك فيصرف عنهم المحذور، ويحصل لهم أحب الأمور، وينفي عنهم الضلالة، ويرشدهم إلى أقوم حالة[2].
إن هداية الخلق لما كانت طريقَ تحقيقِ الغاية التي خُلق لأجلها الجنُ والإنس؛ فإن الله تعالى قد جعل تلك الطريق غايةً من غايات نزول القرآن الكريم؛ فقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89]. وقال: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 57]. وقال: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185].
فتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب الكريم عن ربه تعالى ولم يكن يدْرِه من قبل، فبلغه للناس، وهداهم به إلى الصراط المستقيم، ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52].
فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوه على الناس، فكان لسماعه بين الناس أثر عظيم، فقد عرف أولئك القومُ الفصحاء الأقحاح لغةَ العرب شعرها ونثرها، وأصغوا لبلغائهم وخطبائهم وشعرائهم وكهانهم فما وجدوا جميل كلامهم يبلغ شأوه، أو يلحق سبقه، أو يشبه جمالَه وحسنه، وتأثيرَه على النفوس وأسره للأسماع والقلوب، حتى إنهم حينما بهرتهم روعة هذا الكتاب رفعوا” القصائد السبع المعلقات من حول الكعبة وهي خير ما جادت قرائح الشعراء العباقرة أمثال: ” امرئ القيس “، و” طرفة بن العبد “، و” كعب بن زهير”، و” عمرو بن كلثوم “؛ خجلاً منهم وانفعالاً؛ كالذي زيَّن البيت بقناديل الزيت، ثم سطعت من حولهن مصابيح الكهرباء القوية”[3].
يذكر “أن أعرابيًا سمع رجلاً يقرأ: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ﴾ [الحجر: 94] فسجد، وقال: سجدت لفصاحته، وسمع آخر رجلاً يقرأ: ﴿ فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ﴾ [يوسف:80] فقال: أشهد أن مخلوقًا لا يقدر على مثل هذا الكلام”[4].
ولا عجب فيما فعل الأعرابي وقال الآخر عن القرآن؛ فإن هذا الكتاب كتاب عزيز: ” أحكمت آياته، وفصلِّت كلماته، وبهرت بلاغته العقول، وظهرت فصاحته على كل مقول، وتظافر إيجازه وإعجازه، وتظاهرت حقيقته ومجازه، وتبارت في الحسن مطالعه ومقاطعه، وحوت كلَّ البيان جوامعه وبدائعه، واعتدل مع إيجازه حسن نظمه، وانطبق على كثرة فوائده مختار لفظه، وهم أفسح ما كانوا في هذا الباب مجالاً، وأشهر في الخطابة رجالاً، وأكثر في السجع والشعر سجالاً، وأوسع في الغريب واللغة مقالاً، بلغتهم التي بها يتحاورون، ومنازعهم التي عنها يتناضلون صارخًا بهم في كل حين، ومقرعًا لهم بعضًا وعشرين عامًا على رؤوس الملأ أجمعين: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [يونس: 38]… “[5].
فلما أخذ القرآن من نفوس المشركين مأخذه من الدهشة والعجب لم تستطع نفوس بعضهم إخفاء ذلك الشعور الذي أحدثه فيها، فاضطرهم لمدحه بالقول وإن لم يؤمن به؛ قال الوليد بن المغيرة: ” والله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة[6]، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق[7] أسفله، وإنه ليعلو وما يُعلى، وإنه ليحطم ما تحته”[8].
ولما ذهب عتبة بن ربيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعرض عليه إغراءات قريش أنصت رسول الله لما قال حتى انتهى من قوله، فقال عند ذلك: ” أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني، قال: أفعل، فتلا عليه آيات من سورة فصلت، فرجع عتبة فقال بعض أصحابه لبعض: “نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه؛ فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم”[9].
هذا قول بعض من أثر عليه القرآن ولكنه لم يهتدِ به؛ كبراً وحسداً.
أما من فتح من المشركين آنذاك سمعَه وقلبه للقرآن فقد ولج كلام الله إلى نفسه المظلمة فشعشع في جوانبها النور؛ لقوة تأثيره عليها، حتى أعلنت شهادة الحق فدخلت في دين الله تعالى.
إن المشركين لما علموا قوة تأثير القرآن على نفوس الناس نهوهم عن استماعه، وأمروهم بإحداث الضجيج عند تلاوته؛ حتى لا يصل إلى إسماع الناس، قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26]. ففي هذه الآية: “يخبر تعالى عن أولئك المعرضين عن كفار قريش وأنهم قالوا لبعضهم بعضًا: لا تسمعوا لهذا القرآن الذي يقرأه محمد صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا تتأثروا به، ﴿ وَالْغَوْا فِيهِ ﴾ أي: الغطوا وصيحوا بكلام لهو وصفقوا وصفروا؛ حتى لا يتأثر به من يسمعه من الناس ﴿ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ رجاء أن تغلبوا محمداً على دينه فتبطلوه ويبقى دينكم. وهذا منتهى الكيد والمكر من أولئك المعرضين عن دعوة الإسلام”[10].
ولكن رغم حربهم الإعلامية وتشديداتهم الداخلية المحذرة من سماع القرآن لقاطني مكة ووافديها إلا إنهم لم يفلحوا مع كل الناس؛ فالطفيل بن عمرو الدوسي حينما قدم مكة وعرفت قريش مكانته حذرته تحذيراً شديداً من سماع رسول الله؛ حتى بلغ به الأمر إلى أن حشا القطن في أذنيه؛ لكي لا يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن رحمة الله بالهداية متى ما أُريد لها النفاذ إلى القلوب فلن يمنعها شيء، فقال الطفيل: “فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، فسمعت كلامًا حسنًا، فقلت في نفسي: واثكل أمي! والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذي يأتي به حسنًا قبلته، وإن كان قبيحًا تركته… فعرض عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام وتلا علي القرآن، فلا والله ما سمعت قولاً قط أحسن منه ولا أمراً أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق”[11].
ولا غرابة أن يحدث القرآن هذا التأثير في نفوسهم وقد قال الله تعالى عنه: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21]. قال ابن عاشور: ” لو كان المخاطب بالقرآن جبلاً، وكان الجبل يفهم الخطاب لتأثر بخطاب القرآن تأثراً ناشئًا من خشية الله، خشية تؤثرها فيه معاني القرآن. والمعنى: لو كان الجبل في موضع هؤلاء الذين نسوا الله وأعرضوا عن فهم القرآن ولم يتعظوا بمواعظه لاتعظ الجبل وتصدع صخره وتربه من شدة تأثره بخشية الله”[12].
فإذا كان هذا في جبل فكيف بمخلوق من لحم ودم؟!
إن الله تعالى قد أودع في هذا القرآن قوة التأثير التي تجذب الأسماع والقلوب، فتؤثر على العقول والأرواح والنفوس والجوارح، قال الزركشي: ” قال الخطابي: وقلت في إعجاز القرآن وجهًا آخر ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ في آحادهم وهو: صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس؛ فإنك لا تسمع كلامًا غير القرآن منظومًا ولا منثوراً إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في حال أخرى ما يخلص منه إليه، قال الله تعالى: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [الحشر:21] وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾ [الزمر: 23]”[13].
وقال القاضي عياض -وهو يعدد وجوه إعجاز القرآن-: ” ومنها: الروعةُ التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته لقوة حاله، وإنافة خطره[14]، وهي على المكذبين به أعظم، حتى كانوا يستثقلون سماعه ﴿ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا ﴾ [الإسراء: 41]، كما قال تعالى، ويودون انقطاعه لكراهتهم له. وأما المؤمن فلا تزال روعته به، وهيبته إياه، مع تلاوته توليه انجذاباً، وتكسبه هشاشة؛ لميل قلبه إليه، وتصديقه به، قال تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 23]،
وقال: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا ﴾ [الحشر: 21]، ويدل على أن هذا شيء خص به أنه يعتري من لا يفهم معانيه، ولا يعلم تفاسيره، كما روي عن نصراني أنه مر بقارئ فوقف يبكي، فقيل له: مم بكيت؟ قال: للشجى والنظم”[15].
وفي قصة إسلام أسيد بن حضير وسعد بن معاذ ما يبين قوة تأثير هذا القرآن العظيم على النفوس وأخذه بمجامع القلوب؛ فقد وقف أسيد بن حضير على مصعب وأسعد بن زرارة فقال: “ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة. فقال له مصعب: أوَ تجلس فتسمع؛ فإن رضيت أمراً قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره. قال: أنصفت. ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن. فقالا – فيما يذكر عنهما-: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتهلله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تصلي، فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين. ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن: سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلاً قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسًا وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حُدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك، قال: فقام سعد مغضًبا مبادراً تخوفًا للذي ذكر له من بني حارثة فأخذ الحربة من يده ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئًا، ثم خرج إليهما فلما رآهما سعد مطمئنين عرف سعد أن أسيداً إنما أراد منه أن يسمع منهما فوقف عليهما متشتمًا ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، أما والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارينا بما نكره؟ وقد قال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير: لقد جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان. قال: فقال له مصعب: أو تقعد، فتسمع فإن رضيت أمراً ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره. قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن، قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم لإشراقه وتهلله، ثم قال لهما: وكيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل فتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين، قال: فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عامداً الى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، قال: فلما رآه قومه مقبلاً قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعملون أمرى فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيًا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله وبرسوله. قالا: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلمًا ومسلمة..”[16].
ولا ريب أن هذا الكتاب العزيز الذي نزل باللسان العربي لم يكن خاصًا بالعرب وحدهم، بل هو للعرب وللعجم، ولم يكن للخاصة فحسب، بل هو للخاصة والعامة؛ ولهذا فإن تأثيره حاصل فيهم أجمعين، وباقٍ عليهم في كل حين، فتأثيره لم يزل يُرى في الناس باهتدائهم به منذ نزوله إلى يومنا إلى أن يشاء الله، يقول تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9]. والفعل المضارع دال على الاستمرار.
وحينما سمعه بعض العرب قديمًا تأثروا بسماعه فاهتدوا به، كذلك أثر في العجم في ذلك الزمان أيضًا فآمنوا به، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 83]. فقد نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه [17].
وكما اهتدى به السابقون فلا يزال يهتدي به اللاحقون؛ فتأثيره لم يقف على أبواب العرب الذين يفهمون لغته ويدركون سر إعجازه البياني؛ فهذا عصرنا عصر العلم والتقدم التقني والعلمي المتنوع يكشف للعالم أن القرآن مازال تأثيره باقيًا، بل يزداد يومًا بعد يوم، ويدل على ذلك مواكب العلماء والعباقرة والباحثين وعامة الناس الذين يقبلون على الإسلام مهتدين، منبهرين بهذا الكتاب المعجز الذي اشتمل على ألوان متعددة من أساليب الهداية والتأثير على الخلق على اختلاف لغاتهم وتخصصاتهم.
فـ” أسلوب القرآن في هذا المجال يشفي العامة ويشفي الخاصة؛ فظاهره القريب يهدي الجماهير الساذجة، وباطنه العميق يشبع نهم الفلاسفة إلى مزيد من الحكمة والفكر، ثم إن مرونته اللفظية تجعله واسع الدلالة، أعني سعة الورد الذي تزدحم عليه الوفود ثم تصدر عنه وهي ريانة راضية… وليست السعة التي تتحمل النقائض أو تخلق الريب. وهذه المرونة من أسباب خلود القرآن؛ فإن الأساليب العربية طوال أربعة عشر قرنًا عراها كثير من التغيير والتلوين اللفظي والذهني. ومع ذلك فإنه بقي ممتازًا بخصائصه وخلاصاته الآنفة، يبلى الأسلوب في عصر ما، وكان مزدهرًا في عصر سبق. أما القرآن فإن أسلوبه ظل جديدًا رائع الأثر على ترامي الأجيال إلى هذه الأيام”[18].
إن المتتبع لطرق تأثير القرآن الكريم ووسائله الموصلة إلى الاهتداء به يجدها متعددة؛ لأن الناس مختلفون في وسائل تأثرهم، فلا تدخل الهداية بالقرآن إلى قلوبهم من سبيل واحدة بل من سبل مختلفة، فهناك نفوس تواقة يغريها الوعد بالخير، فحينما تقرأ ما أعد الله تعالى لعباده المؤمنين من الثواب والعطاء الكريم تشتاق إلى ذلك الخير الموعود فتقبل على الهداية، وهناك نفوس تحتاج إلى زجر ودفع، فعندما تقرأ أو تسمع آيات الوعيد وما أعد الله تعالى من أليم عذابه، وعظيم عقابه لمن عصاه تنتفض خوفًا وفرقًا فتترك ما هي عليه من العصيان وتسلك طريق الهدى، وهناك نفوس تستهويها الألفاظ وقوتها، والعبارات وحسن نظمها، والأساليب وجمال اتساقها، والصور التعبيرية والذهنية وحسن مأخذها، فمتى وجدت ذلك في آية سمعتها أو قرأت تملَّكتها حتى تهديها إلى الحق، وهناك نفوس معجبة بالقصص وحسن سَوق أحداثها، وموضوعاتها وعواقبها، فتجد في قِصص القرآن بعظاتها وعبرها ما يشبع نهمها ويكبح جماح انفلاتها في مراتع الهوى، فقصص القرآن ليست كقصص غيره.
فعلى سبيل المثال فإن القرآن يتناول “قصص الأنبياء والمرسلين ويذكر طرفًا من معجزاتهم، ومن المقرر أنه ليس الغرض من ذلك استقراء الوقائع، ولا تحديد الأزمان، ولا تناول الظروف والملابسات، ولا تسجيل مجرد للحوادث والأشخاص، ولا البحث التاريخي الاصطلاحي والفني، وإنما الغرض من ذلك الهداية والعظة والعبرة، وتقرير قواعد هذه الهداية في النفوس بذكر هذه القصص وعرض وقائعها أمام السامعين والقارئين، والقرآن الكريم يصرح بهذا في وضوح”[19].
وهناك نفوس أخرى تبحث عن الحجج والبراهين المقنعة لتترك ما هي عليه من الضلال، وهذه الطريق من طرق الهداية لم يغفلها القرآن الكريم فقد ذكر من الحِجاج والأدلة المقنعة ما يجعل المنصف يسلِّم له، ويخضع لسلطانه، ولا يسعه عند ذلك إلا الاهتداء به، فـ” القرآن يملك على الإنسان نفسه بالوسيلة الوحيدة التي تقهر تفوقه في الجدل، أي: بتقديم الدليل المفحم لكل شبهة، وتسليط البرهان القاهر على كل حجة. فالنكوص عن الإيمان بعد قراءة القرآن يكون كفرًا عن تجاهل لا عن جهل، ومن تقصير لا عن قصور”[20].
وسيأتي معنا في ثنايا الكتاب عند ذكر قصص المهتدين بيان اختلاف الوسيلة القرآنية التي اهتدى بها كل مهتدٍ منهم.
ومن الجدير بالذكر أن هذا التأثير الهادي الذي يولده القرآن في بعض القراء أو المستمعين له حتى يسوقهم إلى الصراط المستقيم؛ لا يعني أن غيرهم ممن يحسبون من أهل الاستقامة أنهم في غنى عن هداية القرآن، ليس الأمر كذلك، بل كل إنسان محتاج إلى هداية القرآن وحسن أثره في نفسه، إما تعديلاً للمسار، وإما زيادة إشراق ووضوح عليه، ولكن الأمر يحتاج إلى بعض الآلات للوصول إليه.
أشار إلى بعض ذلك ابن القيم فقال: ” إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألقِ سمعك واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه؛ فإنه خاطب منه لك على لسان رسوله، قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37] وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفًا على مؤثر مقتض، ومحل قابل، وشرط لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يمنع منه تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه، وأدله على المراد”[21].
[1] نظرات في القرآن الكريم، محمد الغزالي (ص: 8).
[2] تفسير ابن كثير (2/ 44).
[3] نظرات في القرآن الكريم، محمد الغزالي (ص: 134).
[4] الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض (1/ 262).
[5] المصدر السابق (1/ 260).
[6] الطلاوة: الحسن والرونق. المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى وزملاؤه (2/ 564)
[7] الغدق: الكثير. المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى وزملاؤه (2/ 646).
[8] شعب الإيمان، البيهقي (1/ 156).
[9] السيرة النبوية، ابن هشام(2/ 131).
[10] أيسر التفاسير للجزائري (4/ 573).
[11] السيرة النبوية، ابن هشام (2/ 226).
[12] التحرير والتنوير، ابن عاشور (28/ 104).
[13] البرهان في علوم القرآن، الزركشي (2/ 106).
[14] ارتفاع قدره. المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى وزملاؤه (2/ 964).
[15] الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض (1/ 273).
[16] السيرة النبوية، ابن هشام(2/ 283).
[17] سنن النسائي الكبرى (6/ 336).
[18] نظرات في القرآن الكريم، محمد الغزالي (ص: 152).
[19] المصدر السابق (ص: 99).
[20] نظرات في القرآن الكريم، محمد الغزالي (ص: 104).
[21] الفوائد، ابن القيم (ص: 3). وينظر تفصيل ابن القيم لما اقتبسناه من قوله؛ فإنه نفيس.