تطبيقات التدبر في كتاب الله: مختارات منثورة

عبدالله رجب موسى

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ أما بعد:

فهذه تطبيقات تدبُّرية لمختارات منثورة من آيات الذكر الحكيم، إيذانًا بأن كتابة الجديد في فهم القرآن يؤتي أُكُلَه ما وافق المنهج وطابق السوية، التي لا تتخلف طرفة عين عن أدوات الفهم المعتبرة واحتمالاته السائغة، والتي لا تتناقض مع فهوم الأكابر من المفسرين، ولا تضرب كلامهم بالتعارض والتلاحم، بل تستظل بظلال ما دوَّنوه، وتستنير منطلقةً من الأساس الذي قعَّدوه واستقاموا عليه. وهذه التدبرات قد جاءت على شكل فِقرات أو نماذج، كل فقرة عُنوانها آية هي موضوع الاستنباط واستخراج الإشارات.

النموذج الأول:

قال تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2].

كون الله متصفًا بأجناس الحمد كلها، فذا يقتضي لازمَين اعتقاديين:

الأول: أن تستغرق المحامد أفعاله كلها؛ فلا يفعل إلا الجميل ولا يُقدِّر إلا الخير، فيكون الإنعام موضوع إرادته وتقديره، فإن قلت: فكيف يقع البلاء والعذاب وهو منه؟ فالجواب: يقع المكروه بهذه الإرادة الخيرية، لا لِذَاتِ المكروه أو لذات من استحقه، وإنما لإرادة تأديب كعقوبات الحدود، أو لتقرير عبرة كإهلاك فرعون وثمود، أو لشهود الحكمة العامة أو الخاصة في المنع والجود، وهذا عين المحمدة في الفعل والصفة.

الثاني: وهو واجب التوحيد على العبيد أن يبصرَ العبد مقصود إرادته من أفعاله تعالى، فيعلم أن البلاء قنطرة الاجتباء، وأن تقدير المعصية لاستخراج عبودية التوبة، فيكون في مأمن من جنايته على نفسه بالقنوط، أو افترائه على خالقه بالاتهام، والله من وراء القصد.

النموذج الثاني:

قال تعالى: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139]

فكل مصاب في أرض الإسلام لا يضير هذه الطائفة ولا ينال منها، إلا بالمقدار الذي وصف الله: ﴿ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ [آل عمران: 111]،

وأما من سواهم أو ليس في رتبتهم فيتناولهم قول الله: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175]، فمردُّ الناس جميعًا في قوة القلوب أو ضعفها إلى إحدى الطائفتين، فإما وإما، والله هو ولي القلوب يصرِّفها كيف يشاء.

النموذج الثالث:

قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ [الأنعام: 151]

• فيدخل في الظاهر منها: الفحش في القول والفعل، كالنطق بالرفث وما يخدش الحياء، وفعل الحواس: كإطلاق البصر، وتتبع المارة، والتدقيق فيهم على غفلة منهم، ومشاهدة الإباحيات، والمواعدة للأجنبيات، والمصافحة – ولو بريئة – بين غير المحارم، والخَلوة ولو لزمن يسير، والمخالطة من غير موجب ومصلحة معتبرة، والخُطى إلى مظانِّ الشهوات، وكل ما من شأنه الدخول في حد الظهور.

• وأما ما بطن: فكل ما سبيله الباطن؛ بحيث إذا لم تظهر دلالته على الأعضاء لم يعرف، فيدخل فيه: ما دار في الفكر، وجال في الخاطر، واستحدثته النية، وألِفَتْهُ المخيلة، واستلذت به النفس، وكل متعلقات الخلوات والأستار، وقد يستبصر أعراضه الصالحون ويعرفونه في لحن قول المريض.

• وأما التلبس بالزنا والعياذ بالله، فهو سقف كل ما سبق، وهو القعر الذي يغيب فيه الساقطون، وأدوية التعافي والاستشفاء منه باهظة الثمن، والخلاص من عواقبه نادر عسير؛ فهو فاحشةٌ وساء سبيلًا، ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد.

النموذج الرابع:

قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162]

• كفى بهذه الآية دليلًا على أن ما يدعي الإنسان إضافته لنفسه ليس له فيه شيء على الحقيقة، بل هو مستخلف عليه، يعمل فيه بقدر الله وإذنه وشرطه، فها هنا إخبار عن حقيقة، ونفي لزعم قد يُتخيَّل.

• في هذه الآية تصاعد من الأخصِّ للأعمِّ؛ للتنبيه على ضمانات وجودية الإنسان ولوازم حفظه وخلاصه، في ترتيب حكيم وتوالٍ منطقيٍّ معبِّر معجزٍ وموجز.

• فحياة الإنسان دوائر، أولها عصمة للتي تليها وآخرها مشروط بأولها، فالتصدير بالصلاة يسلم لما بعدها وهو النسك – والنسك: شأن العبادة والدين كله – والنسك أَمَنةٌ للحياة الحقيقية، وهِبَةُ الحياة مقصودةٌ لما بعدها من توابع الموت والمصير.

• ومن أجل توصيف أدق؛ فإن النص كأنه يُقنِّن حركة الإنسان فيقرر الآتي: أن الصلاة أعزُّ ما في الدين، وبقيام الدين تقوم الحياة، ومن عاش في الدنيا حيًّا، مات سالمًا ولاقى المصير غانمًا، فهو إذًا تسلسلٌ بعضُه أَمَنةٌ لبعض، ومراحل بعضها قوامُ بعض.

• وسلامة المجموع والكل من هذه الأمانات إنما يكون بتسليمها لله وتخليصها له قولًا وعملًا وحالًا؛ فهو صاحبها؛ إذ كان هو الدالُّ عليها والمشرع لها، والموجد للمكلفين بها، والواهب لهم وسائلها من آلات القدرة والتمكين عليها، والمتفضل بالحياة وأسبابها الكونية والشرعية، فكل شيء منه وإليه، ومنه المبدأ وإليه المنتهى، والإنسان بينهما على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره.

• فحُقَّ علينا لله الحق أن نتوسل إليه تحقيقًا بما ارتضى قوله، وأمر به أحب الخلق إليه أن يقوله: ﴿ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163].

النموذج الخامس:

قال تعالى: ﴿ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]

حسن الظنِّ بالله ليس تجربةً نخمن ما يكون وراءها، وليس محاولةً تحتمل الإخفاق أو الإحقاق، وليس تكهُّنًا قد يخطئ أو يصيب، وليس تطمينًا بلا طائل، أو تصبيرًا بلا ضمانة، أو تفاؤلًا على وَهْمٍ، وليس رسالة إيجابية نجريها على قلوبنا وننحتها في عقولنا لاستلهام الطاقات أو مواجهة التحديات أو لأجل تنمية الذات، إن حسن الظن بالله عبادة أمرنا الله بها، وألزمنا بمقتضياتها من الدعاء وقوة الرجاء، وإصلاح الحال، وتجريد المقاصد، والقيام بواجب السعي، وبذل الوُسْعِ المتاح؛ لتستلقيَ بعدُ على وسادة التوكل ومِهاد التفويض المطلق والتسليم الكامل، وأنت مُلتحِفٌ بعباءة اليقين.

إن حسن الظن حبل من الله ممدود إليك؛ لتستمسك به وتصعد عليه، وأصل الحبل عند الله ثابت، فإن تمسكت بطرفه الذي عندك من غير ارتباك ولا تردد، وصلت لغايته وبلغت قِمَّتَه حيث الأمان والنجاة، وإن تعلقت به شاكًّا أو زاهدًا أو خائفًا، لم تُسعِفْك أعضاؤك في الثبات وأنت تستنقذ به؛ فيغلبك الوهن فتسقط، وكم كنت قريبًا من أعلاه، لكنك فتنت نفسك وتربصت وارتبت، فاعترتك الهِزَّة فسقطت؛ لأنك لم تلتزم بقانون النجاة، فضيعت نفسك!

إن الدعاء وحسن الظن عقيدة لا ترفيه، وعزيمة لا يطيقها مهزوم، ووعد محقق لا أمل معلق، واعتزاز بالله ونفض اليد مما سواه، وغياب عن اعتبارات البشر وإيواءٌ إلى الركن الشديد، وفناء في قدرة الفعال لما يريد، وتصميم على الانضمام إلى فريق المؤمنين؛ فإن اليأس من روح الله حال الكافرين، وحسن الظن به رأس مال المتقين، وذخيرة العاملين، وكنز أولي النهي والأبصار؛ ﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾، ﴿ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾.

النموذج السادس:

قال تعالى: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62]

كثير من الخلق قد أُوتوا من قِبَلِ يقينهم المغشوش، واستبطانهم ظن السوء، فلهجت ألسنتهم بدعاء الخالق وقلوبهم صامتة صمَّاء تشك في الموعود، وتستخذي أجسامهم عن اقتراف أدنى الأسباب، وسبحان من جعل قوله: ﴿ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ ختمًا لقوله: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ﴾.

النموذج السابع:

قال تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ * وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [القصص: 86، 87]، نصٌّ مفعم بالفوائد:

أولها: أن العلا يحصل لمستحقيه من غير حسبان منهم بتوقيته وزمنه.

ثانيها: أن العكوف على الأسباب لا يؤثر بذاته في خلف المبتغي، بل رحمة الله هي السبب والمطلب.

ثالثها: كل وسيلة تجعلك مرتبطًا بالكتاب هي رحمة من رحمات الله، وأنك مرحوم ما انعقد اللقاء بينك وبينه، ولن يكون ذلك إلا بمحض فضل من الله فالتمسه وارتجِهِ.

رابعها: لا خير في الدنيا إلا وكان سبيله العلم؛ فالكتاب في الآية إشارة إلى الوحي، والوحي مصدر العلم واليقين، وأما سبل الخير الأخرى؛ فإما فرع عن هذا السبيل وهو حاكم عليها، وإما زخرف وزيف وليس خيرًا على الحقيقة.

خامسها: أن أبعد الناس عن موالاة الكافرين ومعاونتهم أهل الوحي والكتاب، فلا يجتمع التشريف بالكتاب ومظاهرة خصومه الكافرين؛ ولذلك جاء تذييل الآية بالنهي في قوله: ﴿ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ ﴾؛ لأن إيتاء الكتاب نعمة، وموالاة الأعداء جحود لها؛ كما في قصة موسى صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ﴾، لِما تسببه مولاتُهم من الإضرار بأهل العلم والإيمان.

سادسها: أن الإنسان مهما بلغ في الذرا والمكانة، فإن مناعته تبقى قابلةً للاختراق والتأثر ما لم يصُنْ نفسه ويحفظها عن المخالطة والشبهات، وهذا واضح جدًّا في قوله: ﴿ وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ ﴾.

سابعها: أن الدعوة بعد العلم بالكتاب هي السبيل الواقي من أن يصيبك ما أصاب الناس من أمراض الخنوع والجنوح، تحت سقف السلبية والرضا بالمنكرات وإيلافها.

ثامنها: أن الظهورَ الدعويَّ قد يُكسِب المرء شهرةً تضره بالأنا والإعجاب بالرأي؛ ما قد يُدخِلُ الداعي في إيثار هواه على مراد الشرع؛ فيلتبس بالشرك الخفي؛ ولذلك قال:﴿ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾، والله أعلى وأعلم وهو وحده من وراء القصد.

النموذج الثامن:

قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴾ [الفرقان: 20]:

﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ﴾: فالكافرون فتنة لأهل الإيمان؛ يغرونهم بالشهوات، ويُلبِسون عليهم بالشبهات، ويستفزونهم بالسبق المادي تهديدًا ووعيدًا، ﴿ أَتَصْبِرُونَ ﴾: عن موالاتهم وتثبتون على مخالفتهم ظاهرًا وباطنًا؛ عملًا بقول الله في النهي عن طاعتهم: ﴿ إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾، وحَذَرًا من أن يكون أهل الحق بتخليطهم واعوجاجهم ومجاراتهم لأهل الباطل في أفاعيلهم – فتنةً للكافرين، وصدًّا لهم عن الهدى والنظر والمراجعة ورؤية الحق، وقد استعاذ أهل الإيمان بربهم ودعوه ألا يكونوا كذلك فقالوا: ﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾؛ أي: اغفر لنا كل ما كان سببًا في فتنة غيرنا، وذريعةً لهم على التمادي والبغي، فلا يزال أهل الأرض في تدافع وسِجالٍ يبتلي به الله خلقه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ﴾؛ بصيرًا لا تفوته صغيرة ولا كبيرة، ﴿ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ﴾، ولسوف يذهل المؤمنون فرحًا والكافرون حسرةً في يوم يقال فيه:﴿ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾، والله أعلم.

النموذج التاسع:

قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [الزمر: 27]:

• فيه: أن المسائل المجردة ثقيلة على الفهم ما لم تقترن بوسائل الإيضاح المناسبة، وقد نزلت الأمثال من القرآن هذا المنزِلَ من الكشف له؛ تمهيدًا لتدبره وتقريبًا لفقهه.

• وفيه: أن الفهم يُبلَغ بتكرار النظر، وطول المدارسة لنفس الشيء، وليس ضروريًّا أن تفهم لأول وهلة، لا سيما في النصوص ذات الاحتمالات الواسعة؛ فقوله: ﴿ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ﴾ يقتضي الطواف عليها جميعًا لإدراكها وما تعلقت به، وأنها متباينة في طرحها وطبيعتها، وأنها بمثابة الشواهد المفهمة والقرائن المبينة للموضوعات الكلية، التي تنجلي بغيرها إفصاحًا وإيضاحًا.

• وفيه: أن قاعدة الإسلام الكبرى تنبني على الاستيعاب لكل الناس، واحتواء نوازعهم، ومراعاة التفاوت بين ملكات الاستقبال عندهم، مع استنفاد الطاقات في تبليغهم الحق والوصول بهم لمنطقة الوعي وإصابة اليقين، وأن ذلك يتطلب الموادعة والملاينة وخفض الجناح والصبر، ما دمتَ في مقام الدعوة والإرشاد، ولكل مقام مقال.

• وفيه: أن استفراغ الوُسْعِ وبذل الجهد آيةٌ أنك على مشارف الهدف وبلوغ القصد، وإن تأخر الظَّفَر وطال الحين؛ فإن قوله: ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [الزمر: 27] مستعملٌ فيه أداة الرجاء “لعل” التي تعطي الأملَ حيويتَه، وتُؤذِن ببشرى وقوعه، بشرطها من العمل والحركة، والتوحيد للقصد، وتجريد الأوقات عن العوائق الإضافية والسلوكيات الفضولية التي تسرقه وتنهبه.

• وفيه: أن الشيء إذا كان يستحق، فإن البذل لأجله كبير وكثير، ألا ترى أنه لأجل أن يفهم الناس؛ أنزل الله وحيًا، وضرب فيه من كل مثل، وأزال عنه كل إشكال وخلل، فهذه الدورة الكاملة من البيان تستلزم دورة كاملةً من العمل والمكابدة.

• وفيه: أن التوفيق للفهم الصحيح هو أجلُّ النعم على الإطلاق؛ لأن الله جعله الباب لخشيته والوسيلة لمعرفته وتوحيده: ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾.

النموذج العاشر:

قال تعالى: ﴿ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزمر: 57]:

العبد وإن ضلت به السبل، وعانى من النوازل التي اجترح أسبابها، وشردت به مطايا الهوى إلى فلوات السراب، ورأس ورتع، وشرَّق وغرَّب، وأدمن الأفاعيل وافترى الأقاويل، وآنس واستوحش، وهجر ووصل، وتعثر وتخبط، وغشاه ما خشيه من كَرْبٍ ومحن – فإنه بعد قليل أو كثير سيستيقظ على أن تقوى الله كانت هي الاحتياج الذي حسبه رغبةً، والضرورة التي اعتقدها اختيارًا، والكرامة التي استثقلها تكليفًا، والسلامة التي آثر عليها الندامة، والضمانة التي لم يفرط بحقها، والباقية التي باعها بالفناء والوهم، والسعيد من استفاق قبل انفضاض السوق وانقضاء الفرصة.

النموذج الحادي عشر:

قال تعالى: ﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 44، 45]:

من مثبِّطات اليقين في الدعاء تعوُّد كثرة الشكوى؛ فإن الله جعل في اليقين وقايةً من شهادة اكتراثك بالمصاب، وإيذانًا بحصول المطلوب، وإرهاصًا بنيل المنى، فالداعي متنعم بمراده حكمًا ما تلبس باليقين حقيقةً، يرى الله أكبرَ من أن يوفِّقه لمواطن الفرص ثم لا يؤتيه سُؤلَه منها؛ ولذا كان الوثوق في عطاء الملك ركنَ العطاء وجزءًا من حقيقته، وماهية الشيء لا توجد أو تقوم إلا بتمام الركن، والشكوى من معاني قلق الاطمئنان في القلب، وعدم استبداد اليقين بالنفس، وفيها حيلة شركية محبِطةٌ لنزاهة عبودية التوحيد في الدعاء؛ لأن الدعاء ما هو إلا شكوى من ضرٍّ أو طمع في خير؛ رجاءَ كشف الألم أو المنَّة بالأمل، وفي ترديدك بهما لغير مولاك القدير إشراكٌ خفيٌّ لا سيما بعد امتثالك لعبودية اليقين في الدعاء، واستباحة جائرة لحَرَمِ المناجاة بينك وبين الملك، والله أَغْيَرُ أن تشرك معه سواه في لهفة الحاجة واستعراض المسألة، فكن من الله على وعي به وعلم بدقائق المحظورات في معاملته؛ فإن السذاجة لا تعذر المغفلين.

النموذج الثاني عشر:

قال تعالى: ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾ [المزمل: 5]

هذا القرآن لا يسهُل مناله، ولا يقرب مأخذه لأتباعه – إلا بقوة في تناوله، وتجردٍ في الانقطاع إليه؛ موالاةً في ترديده، ومزاولةً في تدبره وتأمله؛ ولذلك قال تعالى: ﴿ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 171]، وقال: ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ﴾ [الكهف: 27]، وهو يتأبَّى على المعرضين عنه، فيعظُم عليهم ويشق؛ فلا يستشعرون تجاهه غير الحرج والضيق؛ كما قال تعالى: ﴿ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ﴾ [الشورى: 13].

النموذج الثالث عشر:

سياقات الصدقة في القرآن:

بين قضية الإحياء وإخراج الصدقة ارتباطٌ لا ينفصم، وصلة لا تتقطع؛ فآيات الصدقة في القرآن: إما أن تُذكر في سياق الجهاد في سبيل الله الذي ما شُرع إلا لضمانة الحياة، وإما في سياق قدرة الله المطلقة على إحياء الموتى، وإما في سياق التوطِئةِ للحياة الأبدية، وإما في سياق التجديد بالمضاعفة والتزكية، فالصدقة خصوصًا والإنفاق عمومًا يرتبط بمفردات الحياة والتجديد والبركة، واسترداد الحصانة الوجودية.

فمن الأول: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ * كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 215، 216]، وأيضًا: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 244، 245].

ومن الثاني: آيات: محاجة إبراهيم عليه السلام للنمروذ، والذي مرَّ على قرية، وسؤال إبراهيم لله عن كيفية إحياء الموتى، آيات متواليات جميعها أُعقب بقوله عن الإنفاق في سبيله: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261]، في مشاهدَ حقيقيةٍ لمراحل الإحياء والإنماء التي تحصل في النبات، وتأثير المطر كعنصر مخصِبٍ للجنَّات والرُّبى في نحو قوله بعد: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 265].

وأيضًا في سورة الحديد: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الحديد: 17]، قال بعدها مباشرةً: ﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ [الحديد: 18]، ومن قبل هاتين في نفس السورة: ﴿ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [الحديد: 7]، وأيضًا: ﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [الحديد: 10] في إشارة إلى أن الإنفاق بذل كالجهاد.

ومن الثالث: من حيث أن الصدقة – تحديدًا – معبَرٌ للحياة الحقيقية الخالدة؛ ففي سورة الفجر ذم للمكتنزين المال: ﴿ كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾ [الفجر: 17، 18]، إلى أن قال: ﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾ [الفجر: 24]؛ أي: بالصدقة والنفقة. وكذا آخر سورة المنافقون: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [المنافقون: 9، 10]، وأيضًا قول الله: ﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ﴾ [الليل: 17، 18].

ومن الرابع: قول الله: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103]، وأيضًا: ﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [سبأ: 39]، وكذا: ﴿ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 17].

وعليه؛ فالصدقة برهانُ الصدق في الإيمان، وقد جاءت مع إحياء الموتى ومع الحياة الحقيقية – في الدنيا والآخرة – في سياق واحد؛ لأن بها إحياء وتفريج عن المبذولة له، وبها حياة لقلب المنفق وطهرة له ووقاية وعصمة.

• تصدقوا؛ فإن الصدقة أمان للمستقبل وحفظ للمال.

• تصدقوا؛ فإن الصدقة ترفع الغلاء والبلاء.

• تصدقوا؛ فإن الصدقة تُذيب الذنوب وتُرقِّق القلوب.

• تصدقوا؛ فإن الصدقة تطفئ غضب الرب.

• تصدقوا؛ فإن الصدقة وقاية من مصارع السوء.

• تصدقوا؛ فإن الصدقة تجارة رابحة على كل حال.

• تصدقوا؛ فإن الصدقة تحقق البركة وتدفع المرض.

• تصدقوا؛ فإن الصدقة برهان الإيمان والصدق.

• تصدقوا؛ فإن إمساكَ المال إتلافٌ له.

• تصدقوا؛ فإن الصدقة حياة.

• تصدقوا؛ فما من شيء أستر للعيب وأذهب للذنب من الصدقة.

العزيز المفقود - الموقع الرسمي
Logo