القراّن قائد وسائق وحاد

محمد حسين يعقوب

قال الله – عز وجل – ” ولو شئنا لبعثنا فى كل قرية نذيرا * فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ”   

وجاهدهم بماذا ؟ بالقرآن .. كأن الله – جل جلاله – يشير فى هذه الاية إلى أن هذا القرآن بديل من إرسال الرسل , فقد كفل الله به مهمة جميع الرسل , بأن يصنع القرآن رجالا كالرسل .

يقول ربي – وأحق القول قول ربي – ” وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه “  ( العنكبوت : 50 )

فقال الله ” أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ”  ( العنكبوت : 51 ) 

فهم يطلبون آية فعرفهم أعظم آية .. هى القرآن .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ما من نبى قبلى إلا وأوتى ما على مثله آمن البشر , وكان الذى أوتيته كتابا يتلى , وأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة “. [متفق عليه]

وفى سورة البقرة يقول الله – سبحانه وتعالى : ” أو كالذى مر على قرية وهى خاوية على عروشها قال أنى يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عام ثم بعثه “( البقرة : 259 )، الرجل يقول : هل يعقل أن يحيى الله هذه .. كيف “! , فأراه الله الآية فى نفسه أماته الله وأحياه .. قال له : أرأيت ؟ قال : ما رأيت شيئا .. قال له الله : كم لبثت ؟ قال  : لبثت يوما أو بعض يوم .. لا .. ” فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ” .. أراه الآية بعينيه ” وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما” ( البقرة : 259 ) .. الحمار قدّامه .. هيكل عظمي على الأرض , بدأ العظم يقف ويتركب بعضه فى بعض , وبعد العظم الغضاريف وبعدها كسى اللحم ثم نفخ فى الحمار الروح ونهق .. نظرت بأم عينيك ؟ !.. ” قال أعلم أن الله على كل شىء قدير “ ( البقرة : 259 ) .

وبعد هذه القصة مباشرة : ” وإذ قال إبراهيم رب أرنى كيف تحى الموتى “ ( البقرة : 260 ) .. نفس السؤال .. لكنّ الله لم يره الآية فى نفسه , بل قال ” فخذ أربعة من الطير فصرهنّ إليك ثم اجعل على كل جبل منهنّ جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا “ ( البقرة : 260 ) .. فالأول أراه الله الآية فى نفسه , وسيدنا إبراهيم أراه الله الآية فى الطير .. فى الكون .

ونفس السؤال وجّهه العاص بن وائل السهمى , وأبي بن خلف إلى النبى محمد صلى الله عليه وسلم , قال الله

” وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهى رميم  “ ( يس : 78 ) فأجاب الله عليه بقرآن :

” قل يحييها الذى أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذى جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون * أو ليس الذى  خلق السماوات والارض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم “  ( يس : 79 – 81 ) .

إذاً فالأول أراه الله الآية فى نفسه .. فى حماره وطعامه , وسيدنا ابراهيم عليه السلام أراه الله الآية فى الطير , أما فى أمة محمد صلى الله عليه وسلم فالآية فى القرآن , هذه هى القضية .. قضية كلية .. أن ديننا كله مرده إلى القرآن والسنة .. القرآن هو الأصل والسنة متمّمة ومكملة ومفسرة .

ولذلك لابد أن تتذكروا دوما : ” كل ما شغلك عن القرآن فهو شؤم عليك ” .

بعض الناس طيلة الوقت يستمع إلى الشرائط  , ويحضر للمشايخ , ويقرأ فى كتب العلم وهو هاجر للقرآن .. كل هذا لن ينفعك .. القرآن هو الذى يصنعك .. القرآن يربيك .. القرآن ينفعك .. فعليك بالقرآن حفظا وتلاوة وتدبرا وتفسيرا ومذاكرة .. تفهم معنى كلمة مذاكرة ؟!

القرآن فيه علم العقيدة والفقه والسيرة والتفسير والتاريخ واللغة والبلاغة والرقائق .. كل شىء .. القرآن كلام الله .. كتاب مبارك يربيك على العلم والعمل والدعوة .. القرآن هو طريقك لأن تكون رجلا .. نعم : القرآن هو الذى يصنع الرجال , وسيظل يصنعهم إلى أن يرث الله الارض ومن عليها.

نعم – إخوتاه – : القرآن مصنع الرجال .. القرآن يفرّخ الابطال .. فى حظيرة العبودية .. وأهل القرآن هم أهل الله وخاصته .. فهل أنت من أهل الله ؟ .. هل أنت من أهل القرآن ؟! .. هل وهبت كل حياتك للقرآن ؟, وهل وضعته على قمة أولوياتك ؟ .. هل فكرت مرة أن تذاكره كما تذاكر الكتاب المدرسى بجد واجتهاد ؟! .

أخي فى الله , إذا كنت بعيدا عن القرآن فاعلم أنك محروم كل الحرمان , ولو ذقت لما ابتعدت .. تعال إلى الله واعكف على القرآن لتصنع , وإلا فما أبعد الدواء عن تلك الأدواء .

قال – تعالى – ” ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا ”   

( الرعد : 31 ) كان المشركون يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات حسية : تسيير الجبال أو تقطيع الأرض أو تكليم الموتى , فأنزل الله هذا القرآن ليس من شأنه ذلك بل أعظم من ذلك وهو صياغة النفوس , وصناعة القلوب , وإيجاد الإنسان الذى يرضاه الله له عبدا .

لقد تربى الصحابة – رضوان الله عليهم – أفضل جيل عرفه التاريخ على يد أعظم مرب عرفته البشرية .. تربوا بالقرآن , فكان منهم ما تسمع وتقرأ .. إيمان وثبات تزول دونه الجبال .

وهاك مثالا واحدا منهم :  عبّاد بن بشر .. صديق القرآن .. يقول الدكتور عبدالرحمن رأفت باشا – رحمه الله تعالى – : ” إن نشدته بين العبّاد وجدته التقي النقي قوّام الليل بأجزاء القرآن , وإن طلبته بين الأبطال ألفيته الكمي الحمي خوّاض المعارك لإعلاء كلمة الله , وإن بحثت عنه بين الولاة رأيته القوي المؤتمن على أموال المسلمين”

وقد استمع عبّاد بن بشر إلى مصعب بن عمير حين أتى المدينة وهو يرتل القرآن بصوته الدافىء ونبرته الشّجية الآسرة , فشغف ابن بشر بكلام الله حبّا , وأفسح له فى سويداء قلبه مكانا رحبا , وجعله شغله الشاغل , فكان يردده فى ليله ونهاره وحله وترحاله حتى عرف بين الصحابة بالإمام وصديق القرآن ” .

ومن الأئمة الذين رباهم القرآن , الإمام أبو بكر محمد بن أحمد بن سهل , المعروف بابن النابلسى:

قال عنه أبو ذر الحافظ : سجنه بنو عبيد – الفاطميون – وصلبوه على السّنّة , سمعت الدارقطنى يذكره ويبكى , ويقول , كان يقول وهو يسلخ : ” كان ذلك فى الكتاب مسطورا ” ( الإسراء : 58 )

” قال أبو الفرج ابن الفرج : أقام جوهر – القائد – لأبى تميم صاحب مصر أبا بكر النابلسى فقال له : بلغنى أنك قلت : إذا كان مع الرجل عشرة أسهم , وجب أن يرمى فى الروم سهما وفينا تسعة .. قال : ما قلت هذا , بل قلت : إذا كان معه عشرة أسهم وجب أن يرميكم بتسعة , وأن يرمى العاشر فيكم أيضا , فإنكم غيرتم الملة وقتلتم الصالحين , وادعيتم نور الألوهية .. فشهره ثم ضربه  ثم أمر يهوديا فسلخه .

قال معمر بن أحمد بن زياد الصوفى : أخبرنى الثقة أن أبا بكر سلخ من مفرق رأسه , حتى بلغ الوجه , وكان يذكر الله ويصبر حتى بلغ الصدر , فرحمه السلاخ , فوكزه بالسكين موضع قلبه فقضى عليه , وأخبرنى الثقة : أنه كان إماما فى الحديث والفقه , صائم الدهر , كبير الصّولة عند العامة والخاصة , ولما سلخ كان يسمع من جسده قراءة القرآن ” .

نعــم : لما أطعم القرآن لحمه , وأسقاه دمه .. لما اختلط القرآن بلحمه ودمه فجرى فى عروقه ونبض به حسه , نطق جسده الطاهر بالقرآن .. اللهم اجعلنا من أهل القرآن , اللهم لا تحرمنا نعيم القرآن وطعم القرآن ولذة القرآن وحلاوة القرآن .. يا كريم يا رحمن .. يا كريم يا منّان .

اللهم يا ربنا اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا , ونور أبصارنا , وجلاء أحزاننا وهمومنا وغمومنا , اللهم اجعله حجة لنا لا علينا , اللهم اجعله لنا فى الدنيا إماما , وفى القبر مؤنسا , ويوم القيامة شفيعا , وعلى الصراط نورا , ومن النار سترا وحجابا .. اللهم يا ربنا ربّنا بالقرآن وللقرآن وعلى القرآن .. اللهم لا تحرمنا نعمة القرآن .. آميـــن .

نعم – والله : القران نعمة . وتأمل مذا يقول من ذاق نعمة القرآن .. إنه رجل ربّاه القرآن وسرى بألفاظه ومعانيه فى دمه  : ” الحياة فى ظلال القرآن نعمة , نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها , نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه , والحمد لله لقد منّ علىّ بالحياة فى ظلال القرآن فترة من الزمان , ذقت فيها من نعمته ما لم أذق قط فى حياتى .. عشت أتملّى فى ظلال القرآن ذلك التصور الكامل الشامل الرفيع النظيف للوجود , لغاية الوجود كله وغاية الوجود الانسانى .. وعشت فى ظلال القرآن أحس التناسق الجميل بين حركة الإنسان كما يريدها الله وحركة هذا الكون الذى أبدعه الله .. وعشت فى ظلال القرآن أرى الوجود أكبر بكثير من ظاهره المشهود , أكبر فى حقيقته وأكبر فى تعدّد جوانبه , إنه عالم الغيب والشهادة لا عالم الشهادة وحده , وإنه الدنيا والآخرة لا هذه الدنيا وحدها .. عشت فى ظلال القرآن أرى الإنسان أكرم بكثير من كل تقدير عرفته البشرية من قبل للانسان ومن بعد , إنه أنسان بنفخة من أمر الله .. وهو بهذه النفخة مستخلف فى الارض .. وفى ظلال القرآن تعلمت أنه لا مكان فى هذا الوجود للمصادفة العمياء ولا للفلتة العارضة , ” إنا كل شىء خلقناه بقدر ” ( القمر : 49 ) .

ومن ثم عشت – فى ظلال القرآن – هادىء النفس , مطمئن السريرة , قرير الضمير .. عشت أرى قضاء الله وقدره , أمره ومشيئته فى كل حادث , وفى كل أمر . عشت فى كنف الله وفى رعايته , عشت استشعر إيجابية صفاته – تعالى – وفاعليتها .. ” أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ” ( النمل : 62 ) .

” وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير “ ( الانعام: 18 ) .

والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون “ ( يوسف : 21 ) .

” واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه “ ( الانفال : 24 ) .

” فعال لما يريد “(البروج : 16 ) .

” ومن يتق الله يجعل له مخرجا “ ( الطلاق : 2 ) .

” ما من دابّة إلا هو آخذ بناصيتها ” ( هود : 56 ) .

” أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه “ ( الزمر : 36 ) .

” ومن يهن الله فما له من مكرم “ ( الحج : 18 ) .

” ومن يضلل الله فما له من هاد “ ( الزمر : 23 ) .

ذلك ما أحسّه وهو يقرأ القرآن ويعيش معه , فما النتيجة والحصيلة من هذه المعايشة الطويلة ؟ .

يقول رحمه الله : ” وانتهيت من فترة الحياة فى ظلال القرآن إلى يقين جازم حاسم : أنه لا صلاح لهذه الارض , ولا راحة لهذه البشرية , ولا طمأنينة لهذا الانسان , ولا رفعة ولا بركة ولا طهارة ولا تناسق مع سنن الكون وفطرة الحياة إلا بالرجوع ألى الله , والرجوع إلى الله – كما يتجلى فى ظلال القرآن – له صورة واحدة وطريق واحد , واحد لا سواه , إنه العودة بالحياة كلها إلى منهج الله الذى رسمه للبشرية فى كتابه الكريم , إنه تحكيم هذا الكتاب وحده فى حياتها , والتحاكم إليه وحده فى شئونها , وإلا فهو الفساد فى الارض , والشقاوة للناس والارتكاس فى الحمأة الجاهلية التى تعبد الهوى من دون الله ” فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهوائهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدى القوم الظالمين “ ( القصص : 50 ) .

إن الاحتكام ألى منهج الله فى كتابه ليس نافلة ولا تطوعا ولا موضع اختيار , وإنما هو الايمان أو فلا ايمان .. والامر إذا جد .. إنه أمر عقيدة من أساسها , ثم هو أمر سعادة هذه البشرية أو شقائها .. إن هذه البشرية وهى من صنع الله لا تفتح مغليق فطرتها الا بمفاتيح من صنع الله , ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذى يخرج من عنده – سبحانه – , وقد جعل فى منهجه وحده مفاتيح كل مغلق وشفاء كل داء ” وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين “ ( الإسراء : 82 ) ..

” إن هذا القرآن يهدى للتى هى أقوم ” ( الإسراء : 9 ) .

لقد تسلّم الإسلام القيادة بهذا القرآن وبالتصور الجديد الذى جاء به من القرآن , وبالشريعة المستمدة من هذا التصور .. فكان ذلك مولدا جديدا للانسان , أعظم فى حقيقته من المولد الذى كانت به نشأته . لقد أنشأ هذا القرآن للبشرية تصورا جديدا عن الوجود والحياة والقيم والنظم , كما حقق لها واقعا اجتماعيا فريدا كان يعز على خيالها تصوره مجرد تصور قبل أن ينشئه لها القرآن إنشاء .. نعم لقد كان هذا الواقع من النظافة والجمال والعظمة والارتفاع والبساطة واليسر والواقعية والايجابية والتوازن والتناسق .. بحيث لا يخطر للبشرية على بال , لولا أن الله أراده لها وحققه فى حياتها .. فى ظلال القرآن , ومنهج القرآن , وشريعة القرآن ” .

لذلك نصيحتى لكم دائما : ربّوا أولادكم على القرآن , دعوهم للقرآن يربيهم .. ربّوهم وتربوا معهم على مائدة القرآن .. فالقرآن القرآن .. القرآن أصل .. ومن سلك طريق القرآن فقد بلغ مراد الله منه.

قال – تعالى – ” واعتصموا بحبل الله جميعا “ ( آل عمران : 103 ) 

قال العلماء : حبل الله : القرآن، فاجعل القرآن معك وكن مع القرآن .. لا تنسه أبدا , فإنه القائد والهادي والسائق إلى الله .

اللهم اجعلنا وأهلينا وذرياتنا من أهل القرآن أهلك وخاصتك .

العزيز المفقود - الموقع الرسمي
Logo