عمر البيانوني
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ القرآن العظيم لا تنقضي عجائبُه، ولا تُحصَى معانِيهِ وفوائدُه، فهو كلامُ اللهِ العليمِ الخبيرِ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولهذا حثنا اللهُ سبحانَهُ على قراءته وتدبره، ففي تدبُّرِ القرآنِ والعملِ بِهِ شفاءٌ للفردِ وللمجتمع من أمراضه الحسية والمعنوية، وتلبيةٌ لحاجاتِهِ الدنيوية والأخروية، قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) فالله الذي خلق عباده هو أعلم بما يصلحهم، قال تعالى: (ألا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، وقال سبحانه: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ).
فمَنْ عَرَفَ فَضْلَ القرآنِ تلهَّفَ إليه تَلَهُّفَ الظمآنِ إلى الماء، والزُّروعِ إلى السَّماء، والمريضِ إلى الشفاء، والغريقِ إلى الهواء، والمسجونِ إلى الحرية والفضاء.
والذي يعيش بدون القرآن والعمل به والاستهداء بهديه، فإنَّ حياتَه (كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ).
وقد بيَّنَ اللهُ سبحانَهُ الغايةَ من إنزالِ القرآنِ فقال سبحانه: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)، فالتفكر في آيات الله والتدبر لها يوصل إلى الهداية بكتاب الله (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).
فتدبر القرآن هو مفتاحٌ للعلوم والمعارف، وبه يزداد الإيمان في القلب. وكلما ازداد العبد تأملاً فيه ازداد علماً وعملاً وبصيرة.
وقد نعى الله على المشركين إعراضَهم عن القرآن وعدمَ استفادَتِهم من عِبَره وهديه فقال سبحانه: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ).
إِنَّ تدبر القرآن هو التأمُّلُ لفهم المعنى، والتوصُّلُ إلى معرفةِ مقاصدِ الآياتِ وأهدافها، وما ترمي إليه من المعاني والحِكَمِ والأحكام، وذلك بقصد الانتفاع بما فيها من العلم والإيمان، والاهتداء بها والامتثال بما تدعو إليه.
ولكن كيف يمكن تدبر القرآن الكريم؟
هناك خُطُواتٌ عمليةٌ ووسائلُ تعين على تدبر القرآن الكريم، منها:
1ـ تنويرُ البصيرةِ بالإقبالِ على الله تعالى والقُرْبِ مما يحبُّه الله والامتثالِ لأمره، والابتعادِ عما نهى عنه، قال سبحانه: (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً)، فالعلمُ نورٌ، والمعصيةُ ظُلْمَةٌ، ولا بدَّ لمن يريدُ النورَ أنْ يبتعدَ عن كلِّ ما فيه ظُلْمَة، فكلما ابتعدَ المسلمُ عن المعاصي كان أقربَ إلى التوفيقِ والسداد.
2ـ ومما يعين على تدبر القرآن: استشعارُ عَظَمَةِ القرآنِ وذلك باليقينِ التام بأنك مع القرآن حيٌّ وبدونه ميت، ومع القرآن مُبْصِرٌ وبدونه أعمى، ومع القرآنِ مُهْتَدٍ وبدونه ضَال.
والاستشعارُ بأن القرآن كلام الله تعالى وأنه رسائلُ أرسَلَها الله إلى عباده لهدايتهم لأفضل السُّبُل التي فيها نفعهم في الدنيا والآخرة، فالإسلام هو أكملُ نظامٍ عرفته البشرية لإصلاح الناس، وخيرُ ما يعبِّرُ عن الإسلام هو القرآن العظيم.
فالقرآن شفاءٌ من أمراض الشهوات والشبهات، والقرآن يعطي منهجاً سليماً في الحياة ويُصْلِحُ الفردَ والمجتمع.
وكيف لا يَسْتَشْعِرُ عَظَمَةَ القرآن مَنْ عَرَفَ أنَّ القرآنَ هو كلامُ الله تعالى، فإذا كان القرآنُ هو كلامُ اللهِ سبحانه فإنَّ فضلَ القرآنِ على سائر الكلام كفضلِ اللهِ تعالى على خلقه.
لقد وصف الله تعالى تأثُّرَ المؤمنين بالقرآن فقال سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً)، وقال تعالى: (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ).
فقد وَصَفَ اللهُ المؤمنين الذين يخشونه بأنهم تَقْشَعِرُّ جلودُهُم من هذا القرآن الكريم تعظيماً له، وذلك الذي بعثهم على الخضوع له والانقياد، ولذلك قال بعدها: (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ).
فالتدبر لا يكون إلا بالتعظيم لله ولكتابه العظيم.
3ـ ومن الوسائل التي تعين على تدبر القرآن: أنْ يَحْسَبَ أنه هو المخاطب بالقرآن الكريم، فماذا لو حَسِبَ كلٌّ منَّا أنَّ القرآن قد أنزل عليه، وأنه هو المخاطب به، فكيف سيَتَلَقَّى رسائلَهُ ومواعظَهُ، وأوامرَهُ ونواهيَهُ، فما أنفسَها وما أعظمَها مِنْ رسائلَ قالها الخالقُ العظيمُ لخلقه وعباده الذين لا يعرفون من الخير إلا ما عرَّفهم به ربهم، ولا نجاة لهم من الشرور والآثام إلا بابتعادهم عما نهى الله عنه.
قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: (إنَّ مَنْ كان قَبْلَكُمْ رأوا القرآنَ رسائلَ مِنْ ربِّهِمْ، فكانوا يتدبَّرونها بالليل، ويَتَفَقَّدُونَها في النهار).
4ـ ومن الوسائل المعينة على التدبر: معرفةُ أنَّ القرآنَ لا تنقضي عجائبُهُ، فلا يَقْتَصِرُ على ما وردَ في تفسيرِ الآية، بل يُعْمِلُ الفِكْرَ والنَّظَرَ ويَتَأمَّلُ في الآياتِ وما تَدُلُّ عليه، وبهذا تُفْهَمُ الآيةُ على أوسع معانِيها التي تدل عليها، ولا تُقْصَرُ الآيةُ على معنىً واحدٍ من المعاني، فالآيةُ تُفهم على معانٍ كثيرةٍ لا تعارض بينها، فمعرفةُ سببِ النزولِ يُفِيدُنَا في فهم الآية، لكنه لا يعني قَصْرَ مَفْهُومِ الآيةِ على ما وَرَدَ في سبب النزول، فالعبرةُ بعمومِ اللفظِ لا بخصوصِ السبب، فيُمْكِنُ أنْ تُحمَلَ الآيةُ على الكثيرِ من المعاني الحقيقية والمجازية التي تُفْهَمُ من الآية، ويَسمح بها التركيب، إذا لم يكن هناك تعارضٌ بين هذه المعاني.
5ـ ومما يعين على التدبر: تَكْرارُ الآيةِ وتَرديدُها، والعَوْدَةُ المُتَجَدِّدَةُ للآياتِ، فذلك له أثرٌ عظيمٌ في حضورِ القلبِ واستحضارِ الآياتِ والتأثُّرِ بها.
ففي التَّكْرَارِ تقريرٌ للمعاني في النفس، وتثبيتٌ لها في الصدر، وسكينةٌ وطمأنينةٌ للقلب.
وقد ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف من بعده، عن أَبي ذَرٍّ أن النَّبِيَّ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ قَامَ بِآيَةٍ يُرَدِّدُهَا حَتَّى أَصْبَحَ وهي قوله تعالى: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). رواه النسائي وابن ماجه.
وقال بعض السلف: إني لأفتتحُ السورةَ، فَيُوقِفُنِي بعضُ ما أشْهَدُ فيها عَنِ الفراغِ منها، حتى يطلعَ الفجرُ .
وعن الحسن أنه ردَّدَ في ليلة حتى أصبحَ قولَ اللهِ تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)، فقيل له في ذلك؟ فقال: إن فيها مُعْتَبَراً، مانرفع طَرْفاً ولا نَرُدُّهُ إلا وَقَعَ على نِعمَةٍ، وما لا نعلمه من نِعَمِ اللهِ أكثر).
و قام تميمٌ الداريُّ في ليلة بهذه الآية: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ).
وقَالَ مُحَمَّدُ بنُ عَوْفٍ: رَأَيْتُ أَحْمَدَ بنَ أَبِي الحَوَارِيِّ، بعد أن صَلَّى العَتَمَةَ، قَامَ يُصَلِّي، فَاسْتَفْتَحَ بِـ (الحَمْدُ للهِ) إِلَى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ)، فَطُفْتُ الحَائِطَ كُلَّهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ، فَإِذَا هُوَ لا يُجَاوِزُهَا، ثُمَّ نِمْتُ، وَمَرَرْتُ فِي السَّحَرِ وَهُوَ يَقْرَأُ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ). فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا إِلَى الصُّبْحِ.
وقرأ عامرُ بنُ عبد قيس في ليلة سورة غافر، فلما انتهى إلى هذه الآية: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ)، لَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا حتى أصبح.
وقال عَبَّادُ بْنُ حَمْزَةَ: دَخَلْتُ عَلَى أَسْمَاءَ وَهِيَ تَقْرَأُ: (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ)، قَالَ: «فَوَقَفَتْ عَلَيْهَا، فَجَعَلَتْ تَسْتَعِيذُ وَتَدْعُو» قَالَ عَبَّادٌ: فَذَهَبْتُ إِلَى السُّوقِ، فَقَضَيْتُ حَاجَتِي، ثُمَّ رَجَعْتُ وَهِيَ فِيهَا بَعْدُ تَسْتَعِيذُ وَتَدْعُو.
6ـ ومما يعين على تدبر القرآن: التفاعل مع الآيات بالسؤال والتعوذ والاستغفار ونحوِهِ عند مناسبة ذلك، فذلك يعين على حضور القلب عند التلاوة.
وهكذا كان هدي النبي عليه الصلاة والسلام، فقد وصف حُذَيْفَةُ رضي الله عنه قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه: (يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ). رواه مسلم.
وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ قَرَأَ مِنْكُمْ (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) ، فَانْتَهَى إِلَى آخِرِهَا: (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) ، فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ . وَمَنْ قَرَأَ : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) ، فَانْتَهَى إِلَى: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)، فَلْيَقُلْ: بَلَى. وَمَنْ قَرَأَ: (وَالْمُرْسَلاَتِ)، فَبَلَغَ: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) ، فَلْيَقُلْ : آمَنَّا بِاللهِ)) رواه أبو داود والبيهقي في السنن الكبرى.
وقال جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ الرَّحْمَنِ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: (مَا لِي أَرَاكُمْ سُكُوتاً، لَلْجِنُّ كَانُوا أَحْسَنَ مِنْكُمْ رَدّاً مَا قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الآيَةَ مِنْ مَرَّةٍ: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) إلا قَالُوا: وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ فَلَكُ الْحَمْدُ) رواه الترمذي، والبيهقي في شعب الإيمان وفي دلائل النبوة.
وقَالَ حُسَيْنٌ الْكَرَابِيسِيُّ: بِتُّ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَكَانَ يُصَلِّي نَحْوَ ثُلُثِ اللَّيْلِ وَمَا رَأَيْتُهُ يَزِيدُ عَلَى خَمْسِينَ آيَةً فَإِذَا أَكْثَرَ فَمِائَةٌ وَكَانَ لا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إلا سَألَ اللهَ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ أَجْمَعِينَ، وَلا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إلا تَعَوَّذَ بِاللهِ مِنْهُ، وَسَألَ النَّجَاةَ لِنَفْسِهِ وَلِجَمِيعِ المُؤْمِنِينَ، فَكَأَنَّمَا جُمِعَ لَهُ الرَّجَاءُ وَالرَّهْبَةُ مَعاً.
فالمؤمنُ عندما يَمُرُّ على آياتِ الوعيدِ يَخَافُ أنْ يَكُونَ داخلاً فيها، ويَسألُ اللهَ السلامةَ من ذلك، وعند ذِكْرِ المغفرةِ والرحمةِ يَستبشرُ ويَفرَحُ ويَسألُ اللهَ أنْ يكونَ مِنْ أهلِ ذلك.
وعند ذِكْرِ اللهِ وصفاتِهِ وأسمائِهِ تتملَّكُهُ المحبةُ للهِ والهيبةُ له والخضوعُ لجلالِهِ وعَظَمَتِهِ.
7ـ ومن وسائل التدبر: القراءةُ بتأنٍ وهدوء، والتفاعلُ مع الآيات بحضور القلب، وإلقاء السمع، وإمعان النظر، وإعمال العقل. فلا يكون هَمُّهُ الإكثارَ من القراءة بدون تأمُّلٍ وفَهْمٍ لما يقرؤه.
8ـ ومن الوسائل التي تعين على التدبر: الاطلاع على ما ورد في تفسير الآية والعودة إلى فهم السلف للآية وتدبرهم لها وتعاملهم معها.
9ـ ومن وسائل التدبر: فهمُ اللغةِ العربيةِ التي نزل بها القرآن ومعرفة معاني الكلمات ودَِلالاتها، وما توحي إليه من اللطائف والظلال، فالقرآن نزل بلسان عربي مبين، فكلما ازداد الإنسان معرفة باللغة العربية استطاع أن يفهم القرآن بطريقة أفضل، وأدرك مِنْ بلاغته وإعجازه ما يُحَرِّكُ القلوبَ ويُبْهِرُ الألباب.
10ـ ومما يعين على التدبر: أنْ يربطَ الإنسانُ بين آياتِ القرآنِ والواقعِ الذي يعيشُهُ، ويجعلَ من الآيات منطلقاً لإصلاح حياتِه وواقعِه، وميزاناً لمن حوله وما يحيط به.
وذلك من غير تكلُّفٍ وتمحُّل في إنزال الآيات على الواقع.
11ـ ومن وسائل التدبر: التأمُّلُ في سِياقِ الآيةِ، والسياقُ يتكونُ مِنَ السِّبَاقِ واللحاقِ، فالسِّباقُ هو ما قبل الآية، واللحاق هو ما بعد الآية.
وبما أنَّ ترتيبَ الآياتِ والسُّوَرِ هو توقيفيٌّ من الله تعالى، فلا بد أن يكون هناك الكثيرُ من الحِكَمِ والأسرارِ في هذا الترتيب، ولهذا اهتمَّ العلماءُ بعلمِ المناسباتِ بينَ الآياتِ بعضِهَا مع بعض، وكذلك بين السُّورةِ مع غيرِهَا من السُّوَر في القرآن الكريم.
12ـ ومما يعين على التدبر: التساؤل، وذلك بأنْ يسألَ القارئُ نفسَهُ، لماذا ابتُدِئتِ السورةُ أو الآيةُ بذلك واختُتِمَتْ بذلك؟ ولماذا جاءتْ بهذا السياق؟ ولماذا هذه اللفظةُ دونَ غيرِهَا؟ وغير ذلك من التساؤلات.. والتساؤل بماذا يمكنُ أنْ أعمَلَ بهذه الآياتِ.
وبهذا يَأخذُ العِبَرَ من القَصَصِ والأمثالِ وغيرِ ذلك، ويَمتثلُ بما في القرآنِ مِنْ أمرٍ ونهي.
فالتساؤلُ يُثِيرُ الفِكْرَ والنَّظَرَ عند الإنسان، ويحفِّزُهُ على البحث عن معنى الآية ودَِلالاتها، ويُرَسِّخُ المعنى في الذهن.
13ـ ومما يعين على التدبر أنْ يَعْرِضَ المؤمنُ نفسَهُ على كتاب الله، فينظرَ في صفات المؤمنين هل هو من المتصفين بها، وفي صفات المنافقين والكافرين هل هو بعيد عنها، أم أنه يتصف بشيء منها، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ كَانَ جَالِساً يَوْماً فَعَرَضَتْ لَهُ هَذِهِ الْآيَةُ: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) فَانْتَبَهَ فَقَالَ: عَلَيَّ بِالْمُصْحَفِ، لِأَلْتَمِسَ ذِكْرِي اليَومَ حَتَّى أَعْلَمَ مَعَ مَنْ أَنَا وَمَنْ أُشْبِهُ، فَنَشَرَ المُصْحَفَ فَمَرَّ بِقَوْمٍ: (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ. وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)، وَمَرَّ بِقَوْمٍ: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)، وَمَرَّ بِقَوْمٍ: (يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) قَالَ: فَوَقَفَ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ لَسْتُ أَعْرِفُ نَفْسِي هَهُنَا. ثُمَّ أَخَذَ فِي السَّبِيلِ الآخَرِ، فَمَرَّ بِقَوْمٍ: (إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ)، وَمَرَّ بِقَوْمٍ: (إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)، وَمَرَّ بِقَوْمٍ يُقَالُ لَهُمْ: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرٍ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ). قَالَ: فَوَقَفَ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ هَؤُلَاءِ. قَالَ: فَمَا زَالَ يُقَلِّبُ الْوَرَقَ وَيَلْتَمِسُ حَتَّى وَقَعَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أنا مِنْ هَؤُلَاءِ.
فهكذا يقرأ المؤمنُ القرآنَ ليرى أينَ هُوَ مِنَ الامتثالِ بالصفاتِ التي يَمدَحُهَا القرآنُ، وأينَ هو من الابتعادِ عن الصفاتِ المذمومةِ فيه.
وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً والحمدُ للهِ ربِّ العَالمين.