أ.د. ناصر العمر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله ومن تبعهم مصيبًا مخلصًا، وبعد:
إن من أعظم أسباب الهداية إلى الصراط المستقيم تدبر كتاب الهداية، كما أن من أعظم أسباب الضلال الإعراض عن مصدر النور، والتماس بنيات الطريق. ولهذا كان تأمل آيات ربنا والوقوف معها وتدبرها من الأهمية بمكان، وكيف لانقف وكيف لانتأمل والله جلَّ ذِكْرُه يقول في كتابه: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا . مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا . خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} [طه].
ومن الإعراض عن كتاب ربنا، الإعراض عن تدبره.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “هجر القرآن أنواع، أحدها: هجر سماعه والايمان به والاصغاء إليه.
والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به.
والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم اليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم.
والرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به”، ثم قال رحمه الله: “وكل هذا داخل في قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]”.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا . وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:30-31]، فبيَّن أن من هجر القرآن فهو من أعداء الرسول”. وقال ابن كثير يرحمه الله: “وترك تدبره وتفهمه من هجرانه”.
وبالمقابل، قال ابن القيم: “ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن وجمع الفكر على معاني آياته، فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتُتِلُّ في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم وتبصره مواقع العبر، وتشهده عدل الله وفضله، وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما يبغضه وصراطه الموصل إليه وقواطيع الطريق وآفاته، وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة.
فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتميز له بين الحق والباطل في كل ما يختلف فيه العالم، وتعطيه فرقانًا ونورًا يفرق به بين الهدى والضلال، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحًا وبهجة وسرورًا فيصير في شأن والناس في شأن آخر، فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبصره بحدود الحلال والحرام وتوقفه عليها لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل، وتناديه كلما فترت عزماته: تقدَّم الركبُ وفاتك الدليل، فاللحاقَ اللحاقَ والرحيلَ الرحيلَ. فاعتصم بالله واستعن به وقل: حسبي الله ونعم الوكيل”.
فوجب علينا أن نقرأ القرآن وأن نتأمله وأن نقف معه حتى لا يكون فينا شيء من الإعراض عن كتاب الله أو هجره نسأل الله أن يرزقنا تدبر آياته والانتفاع بها.
فيا أيها القاريِ به مُتمَسِّكَا *** مُجِلًا له في كل حالٍ مُبَجِّلا
هنيئًا مريئًا والداك عليهما *** ملابس أنوار من التاج والحُلا
فما ظنكم بالنَّجْلِ عندَ جَزَائه *** أولئك أهلُ اللهِ والصَّفْوَةِ الملا
جزى الله بالخيرات عَنَّى أئمةً *** لنا نقلوا القرآن عذبًا وسلسلًا
والحمد لله أولًا وآخرًا.