إيهاب كمال أحمد
الحمد لله المبتدئ بحمد نفسه قبل أن يحمده الحامدون، وأشهد أنَّ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، ذو الجلال والإكرام والمواهب العظام، والمتكلم بالقرآن والخالق للإنسان، والمنعم عليه بالإيمان، والمُرسل رسوله بكتابه المبين الفارق بين الشَّك واليقين، الذي أعجزت الفُصحاءَ معارضته، وأعيت الألِبَّاء مُناقضته، وأخرست البلغاء مشاكلته، فلا يأتون بسورة من مثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيًرا، وقد جعل أمثاله عبرًا لمن تدبَّرها، وأوامره هدى لمن استبصرها، وحياة لمن في قلبه حياة، وخص هذه الأُمَّة باستعمالها في شرف نشره، وجعل صدورها أوعية لحفظه.
ولذلك كان الواجب على مَن خَصَّه الله بحفظ كتابه، واصطفاه لشرف نشره، واختاره لفضل علمه وتعلُّمه – أن يتلُوَه حق تلاوته، ويتدبر حقائقَ عبارتِه، ويتفهم عجائبه، ويتبيَّن غرائبه.
قال الله – سبحانه وتعالى -: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، وأولو الألباب هم أصحاب العُقُول السليمة، فالألباب جمع لبّ، وهو العقل الخالص من الشوائب[1].
قال النسفي في معنى “ليدَّبَّروا“: “ومعناه: ليتفكروا فيها، فيقفوا على ما فيه ويعملوا به”[2].
وقال الثعالبي: “أي: أنزلناه ليتفكروا في آياتِه التي من جُملتها هذه الآيات المعربة عن أسرار التكوين والتشريع، فيعرفوا ما يدبر ويتبع ظاهرها من المعاني الفائقة والتأويلات اللائقة”[3].
وقد أمر الله – عزَّ وجلَّ – بتدبُّر القرآن وآياته في كثير من آيات القرآن، ومن ذلك:
قوله – عزَّ وجلَّ -: ﴿ أفلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [الروم: 24].
وقوله – سبحانه -: ﴿ أفلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].
وقوله – جل وعلا -: ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [المؤمنون: 68].
قال الطاهر بن عاشور: “والتدبر: التفكر والتأمُّل الذي يبلغ به صاحبه معرفة المراد من المعاني، وإنَّما يكون ذلك في كلام قليل اللفظ كثير المعاني التي أودعت فيه، بحيثُ كُلَّما ازداد المتدبر تدبرًا، انكشف له معانٍ لم تكن بادية له بادئ النظر”[4].
وقال عبدالرحمن الميداني: “التَّدبر عند أهل اللغة هو التفكُّر، لكن مادَّة الكلمة تدور حول أواخر الأُمُور وعواقبها وأدبارها، فالتدبُّر هو النظر في عواقب الأمور وما تؤول إليه، ومن هذا نستطيعُ أن نفهم أن التدبُّر هو التفكر الشَّامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة”[5].
وتدبر القرآن يشمل نوعين: الأوَّل وهو التفكر في آيات القرآن؛ ليوصل إلى مراد الله منها، والثاني: التفكر في المعاني التي اشتمل عليها القرآن؛ مما دعانا الله للتفكر فيها.
قال ابن القيم: “والتفكر في القرآن نوعان: تفكر فيه ليقع على مراد الرب – تعالى – منه، وتفكر في معاني ما دعا عباده إلى التفكر فيه”[6].
فالتدبر إذًا ليس مجرد تحسين الصوت بالتلاوة والتغني بالقراءة، والمسابقة في حفظ الألفاظ والحروف وحيازة الإجازات في مُختلف القراءات، وإن كان في كل ذلك فضل عظيم، وإنَّما التدبر هو التأمُّل في المعاني، والتفكر في المواعظ، والنظر في العواقب، والعلم بتأويل كلامه ومراميه، والتزامه ظاهرًا وباطنًا بالائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه.
ولذلك قال الحسن البصري: “والله، ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتَّى إنَّ أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، وما يرى له القرآن في خلق ولا عمل”[7].
وقال: “قد قرأ هذا القرآن عبيدٌ وصبيان لا علمَ لهم بتأويله، حفظوا حروفه وضيعوا حدوده”[8].
فعند قراءته لا بُدَّ من الاستماع والإنصات الذي يُورث صلاحًا في القلب، وزكاة في النفس، وزيادة في الإيمان، وخشوعًا وخضوعًا للجوارح والجنان.
فالسَّماع الذى شرعه الله – تعالى – لعباده، وكان سلف الأُمَّة من الصَّحابة والتَّابعين وتابعيهم يَجتمعون عليه؛ لصلاح قلوبِهم وزكاة نفوسهم هو: سماع آيات الله – تعالى – وهو سماع النبيِّين والمؤمنين وأهل العلم وأهل المعرفة.
قال الله – تعالى – لما ذكر من ذكره من الأنبياء فى قوله: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ [مريم: 58].
وقال: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ [الإسراء: 107-109].
وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ﴾ [المائدة: 83].
وبهذا السماع أمر الله – تعالى – فقال: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: 204].
وعلى أهله أثنى فقال: ﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 18].
وقال فى الآية الأخرى: ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [المؤمنون: 68].
فالقول الذى أُمروا بتدبره هو القَوْل الذى أمروا باستماعه، وكما أثنى على هذا السَّماع بتلك الكيفية وهذه الآثار وذاك التدبُّر، فقد ذم المعرضين عنه[9].
ومن المعلوم أن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – قد بين لأصحابه – رضوان الله عليهم – معاني القرآن، كما بيَّن لهم ألفاظه؛ فقوله – تعالى -: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44] يتناول هذا وهذا.
وقد قال أبو عبدالرحمن السلمي: “حدثنا الذين كانوا يُقرِئوننا القرآن – كعثمان بن عفان وعبدالله بن مسعود وغيرهما – أنَّهم كانوا إذا تعلموا من النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – عشر آياتٍ لم يُجاوزوها حتَّى يتعلموا ما فيها من العِلْم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلمَ والعملَ جميعًا؛ ولهذا كانوا يبقون مُدَّة في حفظ السُّورة”.
وقال أنس: “كان الرَّجل إذا قرأ البقرة وآل عمران، جَلَّ في أعيننا، وأقام ابن عمر على حفظ البقرة سنين، قيل: إنَّها ثماني سنين”.
قال ابن تيمية تعليقًا على هذه الآثار: “وذلك أن الله – تعالى – قال: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، وقال: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [النساء: 82] [محمد: 24]، وقال: ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ﴾ [المؤمنون: 68]، وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يُمكن كذلك؛ قال – تعالى -: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2]، وعقل الكلام متضمن لفهمه، ومن المعلوم أنَّ كلَّ كلام المقصودُ منه فهم معانيه دون مُجرد ألفاظه، فالقُرآن أَوْلَى بذلك، وأيضًا فالعادةُ تَمنع أن يقرأ قوم كتابًا في فن من العلم؛ كالطب والحساب، ولا يستشرحونه، فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم، وقيام دينهم ودنياهم؟!”[10].
وقال ابن القيم: “فقراءة آية بتفكر وتفهُّم خير من قراءة ختمة بغير تدبُّر وتفهم وأنفعُ للقلب، وأَدْعَى إلى حصول الإيمان وذَوْقِ حلاوة القُرآن، وهذه كانت عادة السَّلف، يردِّد أحدُهم الآية إلى الصباح، وقد ثبت عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – أنه قام بآية يرددها حتَّى الصباح[11]، وهي قوله: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118]”[12].
وقراءة القرآن بتدبُّر وتفكر هي إحدى طريقتين يُمكن من خلالهما التعرُّف على الله – سبحانه وتعالى – وبيان ذلك أن “الرب – تعالى – يدعو عباده في القرآن إلى معرفته من طريقين: أحدهما: النَّظر في مفعولاته، والثاني: التفكر في آياته وتدبرها، فتلك آياته المشهودة، وهذه آياته المسموعة المعقولة”[13].
فإنْ فَعَل المؤمن ذلك، حصل من الخير ما لا يعلمه إلا الله، فلا شيءَ أنفع للقلب من قراءة القُرآن بالتدبر والتفكر، فإنَّه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين، وهو الذي يُورث المحبة والشوق، والخوف والرَّجاء، والإنابة والتوكُّل، والرِّضا والتفويض، والشُّكر والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة، والتي بها فساد القلب وهلاكه.
فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبُّر والتفكُّر، لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه العبدُ بتفكر حتَّى مرَّ بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه، كرَّرها ولو مائة مرة.[14]
فما الذي يصد البعضُ عن هذا التدبر؟ وما الأقفالُ التي تكون على القلوب، فتحولُ بينهم وبين ذاك التفكر؟ وما العوائق التي تمنع كثيرًا من الناس من بلوغ هذا الخير العظيم؟
هذا ما سيدور الحديث عنه في النِّقاط التالية:
1- ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14]:
إنَّ للمعاصي شؤمًا عظيمًا، فهي تورث ظلمة في الظاهر وسوادًا في الباطن، وتكسو القلب بطبقة من الرَّان تصدُّه عن قبول الخير، وتغلفه بأكنَّة تمنعه من الفقه والتدبر؛ فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((إنَّ العبدَ إذا أخطأ خطيئة، نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب، سقل قلبُه، وإن عاد زيد فيها حتَّى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله؛ ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14] [15].
ولذلك كان لزامًا على كل مُؤمن أن يتقيَ الفتن، ويسرع إلى التوبة من كل ذنب.
كما يَجب عليه أن يخشى على قلبه أن تعصف به رياحُ الفتن، فترديه كالكوز المقلوب الذي لا يُمسك من نور الحق شيئًا.
قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تُعرض الفتن على القلوب عرض الحصير، فأيُّ قلبٍ أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، وأيُّ قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، حتَّى يصير القلبُ على قلبين: أبيض مثل الصَّفا لا يضره فتنة ما دامت السَّموات والأرض، والآخر أسودُ مُرْبَدٌّ كالكوز مُجَخِّيًا – وأمال كفَّه – لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلاَّ ما أشرب من هواه))[16].
2 – ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [لقمان: 6]:
فمن أشد المعاصي فتكًا بالقلب، وصدًّا له على التمتُّع بنور الوحي، وتدبر آياته: لَهْوُ الْحَديث، ومعنى قوله – تعالى -: ﴿ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ﴾ [لقمان: 6]؛ أي: يستبدل ويختار الغناء والمزامير والمعازف على القرآن، كما قال أبو الصباء البكري: سألت ابنَ مسعود عن هذه الآية، فقال: هو الغناء، والله الذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاث مرات.[17].
قال ابن تيمية: “فإنَّ السكر بالأصوات المطربة قد يصير من جنس السكر بالأشربة المطربة، فيصدهم عن ذكر الله وعن الصَّلاة، ويَمنع قلوبهم حلاوة القرآن وفهم معانيه، واتِّباعه فيصيرون مُضارعين للذين يشترون لَهْو الحديث؛ ليضلوا عن سبيل الله”[18].
وقال ابن القيم: ومن مكايد عدو الله “الشيطان” ومصايده التي كاد بها مَن قلَّ نصيبه من العلم والعقل والدِّين، وصاد بها قلوبَ الجاهلين والمبطلين: سماع المُكَاء والتصديَّة والغِنَاء بالآلات المحرمة الذي يصدُّ القلوبَ عن القرآن، ويَجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآنُ الشَّيطان والحجاب الكثيف عن الرَّحمن، كاد به الشيطان النُّفوسَ المبطلة، وحسنه لها مكرًا منه وغرورًا، وأوحى إليها الشبه الباطلةَ على حسنه، فقبلت وحْيَه واتَّخذت لأجله القرآن مهجورًا.
فيا شماتة أعداء الإسلام بالذين يزعمون أنَّهم خواصُّ الإسلام، قضوا حياتهم لذة وطربًا، واتَّخذوا دينهم لهوًا ولعبًا، مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن، لو سمع أحدهم القرآن من أَوَّلِه إلى آخره، لَمَا حرك له ساكنًا ولا أزعج له قاطنًا، ولا أثار فيه وجدًا، ولا قدح فيه من لواعج الشوق إلى النَّار زندًا، حتَّى إذا تُلِيَ عليه قرآن الشيطان، وولج مزموره سَمعه، تفجرت ينابيعُ الوجد من قلبه على عينيه فجَرَتْ، وعلى أقدامه فرَقَصَت، وعلى يديه فصفقت وعلى سائر أعضائه فاهْتَزَّت وطربت، وعلى أنفاسِه فتصاعَدَتْ، وعلى زفراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت.
فيا أيها الفاتن المفتون، والبائع حظَّه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسر مغبون، هلاَّ كانت هذه الأشجان عند سماع القرآن، وهذه الأذواق والمواجيد عند قراءة القرآن المجيد، وهذه الأحوال السنيَّات عند تلاوة السور والآيات؛ ولكن كل امرئ يصبو إلى ما يُناسبه ويَميل إلى ما يُشاكله”[19].
وللأسف الشَّديد، كم استشرى الآن هذا الدَّاء اللعين في الأُمَّة! لا سيما الفتيات والفتيان، فأبعدهم مزمار الشَّيطان عن تدبر قرآن الرحمن، فإنَّهما في قلب واحد لا يجتمعان؛ ورغم أنه داخل في جملة المعاصي إلا أنه لعظيم خطره أفردناه هنا بالذكر والبيان.
3 – ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ ﴾ [البقرة: 78]:
وهنا نشير إلى ظاهرة سيئة وانحراف في منهج التعامُل مع كتاب الله، ونعني بذلك: عدم تعلم الكتاب إلاَّ أمانِيَّ فقط، والأماني جمع أمنية وهي التلاوة[20].
ولا شك أنَّ تلاوةَ القرآن فضلٌ عظيم؛ لكن التركيز على الألفاظ دون المعاني، والتفنن في إتقان المخارج دون التأمُّل فيما وراء المباني – هو نوع هجرة لكتاب الله.
فالله – عزَّ وجلَّ -: “ذَمَّ من لم يكن حظه من السماع إلا سماع الصوت، دون فهم المعنى واتباعه؛ فقال – تعالى -: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 171]، وقال – تعالى -: ﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ [الفرقان: 44]، وقال – تعالى -: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [محمد: 16][21].
قال الغزالي في “الإحياء”: “والقرآن من أوَّله إلى آخره تحذير وتخويف، لا يتفكر فيه متفكر إلا ويطول حزنه، ويعظم خوفه إن كان مؤمنًا بما فيه، وترى الناس يهذُّونه هذًّا[22]، يَخرجون الحروفَ من مَخارجها، ويتناظرون على خفضها، ورفعها، ونصبها، كأنَّهم يقرؤون شعرًا من أشعار العرب، لا يهمهم الالتفات إلى معانيه والعمل بما فيه، وهل في العالم غرور يزيد على هذا؟!”[23].
وقال ابن القيم: “وأمَّا التأمل في القرآن، فهو تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبُّره وتعقله، وهو المقصود بإنزاله لا مُجرد تلاوته بلا فهم، ولا تدبر”[24].
“فقراءة القرآن بالتفكُّر هي أصل صلاح القلب؛ ولهذا قال ابن مسعود: لاتهذُّوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نَثْرَ الدَّقَلِ، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، لا يكن همُّ أحدكم آخر السورة، وروى أبو أيوب عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث، قال: لأَنْ أقرأَ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كما تقرأ”[25].
فهذا هو منهج السَّلف في التعامُل مع القرآن الكريم؛ ولذا انتفعوا به، واجتنوا من وراء ذلك ثَمَرات عظيمة، فأسسوا حياتَهم وفق منهجه، وأقاموا معيشتهم بأحكام شرعته.
ولكن حال الخلف اختلف، فالنَّظر إلى حال الكثير منهم يُصيب بالحزن والحسرة؛ حيثُ وقعوا في ذاك الانحراف الخطير، فصاروا يُقبلون على سماع القرآن، لا يلفت نظرهم فيه إلاَّ جمال صوت القارئ وحسن تنغيمه، وصار إقبالهم على تعلُّم تلاوة القرآن، وتعليمه أولادهم أضعاف أضعاف اهتمامهم بتدبُّر القرآن، وفهمه ومعرفة تأويله والاتِّعاظ بمواعظه، والائتمار بأوامره، والانتهاء عن نواهيه، وكأن القرآن ما أنزل إلا لحفظه ألفاظه دون معانيه، أو لتلاوته دون تدبره والتفكر فيه، وهؤلاء لم يعرفوا القرآن حقَّ معرفته ولا تلوه حق تلاوته.
4 – ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2]:
لقد اختار الله – عزَّ وجلَّ – اللغة العربية؛ لتكونَ لغة القرآن المعبرة عن وحي الرحمن، وهذا فوق أنَّ فيه تشريفًا لتِلْك اللغة الكريمة، فهو مُشتمل على حكم جليلة وفوائد عظيمة.
قال الطاهر بن عاشور: “وقد اختار الله – تعالى – أنْ يكونَ اللسان العربي مظهرًا لوحيه ومستودعًا لمراده، وأن يكونَ العرب هم المتلقين أولاً لشرعه، وإبلاغ مراده؛ لحكمة علمها، منها: كون لسانهم أفصحَ الألسن، وأسهلها انتشارًا، وأكثرها تحملاً للمعاني، مع إيجاز لفظه، ولتكون الأُمَّة المتلقية للتشريع والنَّاشرة له أمة قد سلمت من أَفْنِ الرَّأْيِ عند المجادلة، ولم تقعد بها عن النُّهوض أغلال التكالب على الرَّفاهية…”[26].
ولا غَرْوَ أن من أهم عوائق تدبُّر القرآن الابتعاد عن تعلُّم وفهم لُغته العربية، وإدراك أساليب العرب وتفنُّنهم في كلامهم، وتذوُّق أسرار البلاغة والفصاحة، فبدون معرفة اللغة العربيَّة لا يُمكن فهم القرآن ولا تدبر معانيه؛ “لأنَّه محال أن يُقالَ لمن لا يفهم ما يُقال ولا يعقل تأويلَه: اعتبر بما لا فَهْمَ لك به ولا معرفة من القيل والبيان والكلام، إلاَّ على معنى الأمر بأنْ يفهمه ويفقهه، ثم يتدبره ويعتبر به، فأمَّا قبل ذلك فمستحيل أمره بتدبره، وهو بمعناه جاهل.
كما محالٌ أنْ يقالَ لبعض أصناف الأمم الذين لا يعقلون كلامَ العرب، ولا يفهمونه: لو أنشد قصيدة شعرٍ من أشعار بعض العرب ذات أمثال ومواعظ وحكم، اعتبر بما فيها من الأمثال، وادكر بما فيها من المواعظ، إلاَّ بمعنى الأمر لها بفهم كلام العرب ومعرفته، ثم الاعتبار بما نبهها عليه ما فيها من الحكم، فأمَّا وهي جاهلة بمعاني ما فيها من الكلام والمنطق، فمحال أمرُها بما دلَّت عليه معاني ما حوته من الأمثال والعِبَر؛ بل سواء أمرها بذلك وأمر بعض البهائم به، إلا بعد العلم بمعاني المنطق والبيان الذي فيها، فكذلك ما في آي كتاب الله من العبر والحكم والأمثال والمواعظ لا يجوز أن يقال: اعتبر بها إلاَّ لمن كان بمعاني بيانه عالمًا وبكلام العرب عارفًا، وإلاَّ بمعنى الأمر لمن كان بذلك منه جاهلاً أن يعلم معاني كلام العرب، ثم يتدبره بعدُ، ويتعظ بحكمه وصنوف عبره”[27].
وقال الشاطبي: “القرآن نزل بلسان العرب على الجملة، فطلب فهمه إنَّما يكون من هذا الطريق خاصة؛ لأن الله – تعالى – يقول: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ﴾ [يوسف: 2] ، وقال: ﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 195].
وقال: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ﴾ [النحل: 103].
وقال: ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ﴾ [فصلت: 44]، إلى غير ذلك مما يدل على أنَّه عربي وبلسان العرب، لا أنَّه أعجمي ولا بلسان العجم، فمن أراد تفهمه فمن جهة لسان العرب يفهم، ولا سبيلَ إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة”[28].
فكم أتعسَ هذه الأمة فنونُ التغريب التي حرص أعداء الدِّين على إغراق أبنائنا فيها؛ ليقطعوا وصلهم بكتاب الله وسنة رسوله – صلَّى الله عليه وسلَّم – وليطمسوا هويتهم، فيسهل عليهم غَزْوهم في فكرهم وثقافتهم، ومن العجب أن ترى الآباء يُسارعون في تعليم أبنائهم لُغة الأعاجم في عمر مبكر جدًّا، حريصين كل الحرص على إتقانهم تلك اللغات، غير عابئين بتعلمهم لغة قرآنهم، وإتقانهم فنونها وأساليبها، وغير مكترثين بما قد يسببه تعلق أبنائهم بتلك اللغات من هجرهم لتعلم اللغة، ومن ثم الدين، ولا يدرون أنَّهم بذلك ينفذون مخطط أعدائهم بحذافيره، فيسدون لهم خدمة مجانية جليلة.
لقد حرص أعداء الدين – حين بثُّوا فينا تعظيم لُغاتِهم وإهمال لغة قرآننا – على بناء جدار عالٍ يحجزنا عن تدبر القرآن، ويعزلنا عن التفكر في كلام الرحمن، ولا ريب أنَّهم نجحوا في ذلك إلى مدى بعيد، حتى صِرْتَ ترى من العرب من لا يحسن من العربية شيئًا، لا فهمًا ولا استيعابًا، ولا كتابة ولا قراءة، ولا إدراكًا للمعاني الظاهرة، فضلاً عن التدبر والتأمُّل في مرامي الألفاظ وأعماق المعاني، وإنَّا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
5 – ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 43]:
﴿ وَمَا يَعْقِلُهَا ﴾؛ أي: يفهمها ويتعقل الأمر الذي ضربناها لأجله، ﴿ إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ بالله، الراسخون في العلم، المتدبرون المتفكرون لما يتلى عليهم وما يشاهدونه[29].
والعقل هنا بمعنى الفهم؛ أي: لا يفهم مغزاها إلا الذين كملت عقولهم، فكانوا علماء غير سفهاء الأحلام، وفي هذا تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بها جهلاء العقول[30].
فالعالم يقف على المقصود بالموعظة، ويعقل ما يرمي إليه المثل من فوائد وعبر، “وأمَّا الجاهلُ، فلا يجاوز قدره ظاهر المثال لجهله بالتفسير”[31].
ولذلك قال بعضُ السلف: إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه، بكيت على نفسي؛ لأنَّ الله قال: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾.[32]
من هنا نعلم أنَّ الجهل عائق خطير من عوائق تدبر القرآن الكريم، فمن العسير – ربَّما لدرجة المحال – على من لم يحصِّل قدرًا كافيًا من علوم الشرع والتفسير أن يتدبر القرآن ويتفكر في آياته.
أمَّا الراسخون في العلم، فهم أسعد الناس حظًّا في تدبر القرآن والتفكر فيه؛ لأنَّهم الأعلم بتأويله، والأفهم لتفسيره، والأقدر على إدراك معانيه والاتِّعاظ بمواعظه وأمثاله.
قال الله – تعالى -: ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الحج: 54].
﴿ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ﴾؛ أي: “فتخضع للقرآن قلوبهم وتذعن بالتصديق به والإقرار بما فيه”[33].
فالذين أوتوا العلم هم أَوْلَى الناس بفهم القرآن وتدبُّره، ومن ثَمَّ الخضوع له واتباع ما فيه، وأما الجهال فهم الذين حرموا أنفسهم من الاقتباس من نور علوم الوحي، فحدث لهم من الحرمان بحسب ما عندهم من جهل.
ولذلك كان أفضلُ المؤمنين وخيرهم مَن تعلَّم القرآن وعلمه؛ فقد رَوَى عثمان بن عفان عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – أنه قال: ((إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه))[34]، وفي لفظ: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)).
ولذلك كان من الواجبات على كلِّ مُؤمن أن يطلبَ من علم الوحي ما يرفع عنه وصف الجهالة المذموم، وينقله من طبقة الجُهَّال، كما يجب على من حاز شيئًا من علم الكتاب أن يعلمه للناس وينشره بينهم؛ كما قال ابن كثير: “فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله وتفسير ذلك، وطلبه من مظانه وتعلم ذلك وتعليمه”[35].
6 – ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الإسراء: 82]:
إنَّ المقصود هنا ضرورة معايشة المؤمنين للأجواء القُرآنية، بحيث ترتبط حياتُهم به، ويشعرون بمدى احتياجهم له، فيصير حالهم كحال المريض الحائر الباحث عن شفاء دائه المستعصي بكل شغف.
قال ابن القيم: “فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القَلْبيَّة والبدنيَّة، وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يُؤهل ولا يوفق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام، واعتقاد جازم واستيفاء شروطه، لم يقاومه الداء أبدًا”[36].
وإنَّ من أهم أسباب تأثُّر الصحابة بهذا القُرآن العظيم، وتدبرهم له: أنَّهم بنوا حياتهم على منهج هذا الدين، وتعلقوا بعيش الآخرة، ومن ثَمَّ كان ارتباطهم بالوحي عظيم، وتعايشهم مع الآيات جليل، فهم يربطونها بواقعهم، ويستمدون قُوَّتهم منها، ويجعلونها المصدر الذي يتزودون منه ما يَحتاجونه في دينهم ودُنياهم، فإذا قرؤوا القُرآن أو استمعوا له، كان شُعُورهم الدائم أن الله يُخاطبهم ويكلمهم به، فكانت قلوبهم تتشوق لنزول الوحي، ونُفُوسهم تهفو لاستماع كل ما أنزل منه، فإذا أنزلت آية مسَّت شغاف قلوبهم، وحرَّكت مكنونات مشاعرهم، وروت غليل نفوسهم وظمأ ألبابهم ووجدانهم، وهكذا حال المحب مع كلام محبوبه.
لكن أنَّى لمن شغلت الدُّنيا قلبه، فجعلها أكبر همِّه ومبلغ علمه، فما حمل للإسلام همًّا، ولا أشغل بقضاياه فكرًا، ولا حدَّث بالجهاد نفسًا، ولا شغل بالدعوة وجدانًا، ولا عايش من أجواء القرآن شيئًا، أنى له أن يتدبر القرآن، ويقفو معاني آيات الرحمن؟! هيهات هيهات!
نسأل الله أنْ يجعلنا ممن يرعى كتابه حقَّ رعايته، ويتدبره حق تدبره، ويقوم بقسطه، ويُوفي بشرطه، ولا يلتمس الهدى في غيره، وأن يهدينا لأعلامه الظاهرة، وأحكامه القاطعة الباهرة، وأن يجمعَ لنا به خير الدنيا والآخرة، فإنه أهل التقوى وأهل المغفرة.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحابته، والمهتدين بهديه إلى يوم الدين.
[1] “مفردات ألفاظ القرآن”، ص733.
[2] “تفسير النسفي”، (4/38).
[3] “تفسير الثعالبي”، (4/37).
[4] “تفسير التحرير والتنوير”، (11/252).
[5] “قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله – عزَّ وجلَّ”، ص10.
[6] “مفتاح دار السعادة”، (1/187).
[7] “تفسير ابن كثير”، (4/43).
[8] “تفسير النسفي”، (4/38).
[9] انظر: “مجموع فتاوى ابن تيمية”، (11/559).
[10] “مقدمة في التفسير”، ص45.
[11] أخرجه النسائي (1000)، وابن ماجه (1340)، وصححه الألباني في “مشكاة المصابيح” (1205).
[12] “مفتاح دار السعادة”، (1/187).
[13] “الفوائد”، ص21.
[14] “مفتاح دار السعادة”، (1/187).
[15] أخرجه أحمد (7611)، والترمذي (3257) وقال: “حسن صحيح”، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (3/127).
[16] أخرجه أحمد (22193)، ومسلم (207).
[17] “تفسير البغوي”، ص283. [18] “مجموع الفتاوى”، (11/643).
[19] “إغاثة اللهفان”، (1/224-225) باختصار وتصرف يسير.
[20] “تفسير القرطبي”، (2/8)، “تفسير ابن كثير”، (1/65).
[21] “مجموع فتاوى ابن تيمية”، (5/158).
[22] يهذُّونه هذًّا؛ أي: يقرؤونه بسرعة، انظر: “لسان العرب”، لابن منظور (3/517).
[23] “إحياء علوم الدين”، (3/387).
[24] “مدارج السالكين”، (1/451).
[25] “مفتاح دار السعادة”، (1/187).
[26] “تفسير التحرير والتنوير”، (1/18).
[27] “تفسير الطبري”، (1/60).
[28] “الموافقات”، (2/64).
[29] “تفسير فتح القدير”، (4/291).
[30] “تفسير التحرير والتنوير”، (10/256).
[31] “إحياء علوم الدين”، (4/23).
[32] “تفسير ابن كثير”، (1/97).
[33] “تفسير الطبري”، (9/179).
[34] أخرجه البخاري (4640).
[35] “تفسير ابن كثير”، (1/3).
[36] “زاد المعاد”، (4/322).