د.سليمان العبودي
بسم الله الرحمن الرحيم
أَكْثَرَ الكاتبون عن طلب العلم من الحديث عن عوائق التعلم الخارجية وكثُر الطرقُ حولها والكلامُ في آثارها، وربما بهذا الإيغال المفرطِ حولها نَغفُل نحن السالكين عن تلك العوائق الداخلية التي تتسلل لِواذا إلى حنايا الفؤاد وتتورَّم تدريجيا حتى تكاد تحجب عنا رؤية موضع الأقدام، ما لم يمنّ الله علينا بسرعة الاستئصال قبل استفحال الداء، فهَبْ أننا نفذنا بجلودنا من عوائق الطريق الخارجية فأنى لنا من الاحتراس بلا عناءٍ من خصمٍ داخليّ أشد ضراوةً يسكننا ويتربص بنا الدوائر وهو يتمترس بِنا علينا ؟! قال العباس بن الأحنف مصورا حالَ هؤلاءِ خصومِ الداخل:
قلبي إلى ما ضرَّني داعي *** يُكثر أسقامي وأوجاعي
كيف احتراسي من عدوي إذا *** كان عدوي بين أضلاعي؟!
حينما أقول باسترخاء تام إن العراقيل الداخلية ربما كانت أشد فتكا بطالب العلم فأنا أعني منها ما يتصل بأوهام التنفُّج ورؤيةِ الذات والولعِ بكثرةِ الالتفاتِ لتلك الخطوات اليسيرة والمنجزاتِ الأولية في طريق التعلم ، وما يستتبع ذلك عند الاستسلام لتلك الخطرات السادرة في الوهم من ذلاقة اللسان بثلب الأكابر واستحلاء الوقيعة في الأئمة واستسهال التعريض بهم ولو بحروف خجلى من وراء حجابِ الفذلكات اللفظية والمناورات النفسية ، دعني أكون أكثر وضوحا ونفاذا للمقصود وتحليلا للظاهرة: طالب العلم حينما يزداد معرفةً ويرتقي في مدارج المعرفة فإنه يستشعر جيدا ذلك الارتقاء ويحسُّ بدبيبِهِ في ضلوعه كما يستشعر الطاوي سريان لقيمات من طعام طيبٍ في جوفه، وكما يستشعر الظامي جريان حسوات من ماء زلال في غليله، بل الشعور بلذَّةِ اتساع رقعة العلم في بُقَعِ الجهل داخل النفس لا تعادله لذائذ صنوف الطعام والشراب؛ قال ابن حزم الأندلسي:(لذة العالم بعلمه!). وهنا تحديدا تتولد القابلية لانتفاخ بالون الزهو بالتحصيل وتنبعث مشاعر الانتشاء بالتعلم، فهي أمرٌ معتاد يصحب مراحل الطلبِ كلِّها ، ويُحسِنُ تجفيفَ منابعه وتقليصَ مناطق نفوذِه على الفور الموفَّقون في طريق الطلب، ولكنَّ هذا الشعور يتدفق عادةً بغزارة في المراحل الأولية وما جاورها أيامَ غضارة الشباب وتورّدِ وَجَنات المعارف ، لذا جرت العادةُ أن تكثر الكتابة والتآليف في المستدركات والمآخذ العلمية في أوائل الطلب ثم تختفي عن الأنظار رويدا رويدا تلك اليد المولعة بجمع المآخذ وفرزِ التعقيبات وتخرج من الجيب بيضاء من غير استدراك كلما تبحر طالب العلم في الفنون، وفي الجملة مَن كثر علمُهُ في كلِّ فنٍّ انضبطَ إنكاره! وكما قال العلامة المبرِّد عن كتابِهِ الذي وَضعه في تتبع أغلاط سيبويه:
(هذا شيء كنا رأيناه في أيام الحداثة فأما الآن فلا!).
وقد تحدَّث كثير من السالكين طريقَ طلب العلم عن استشعارِهم انتفاخ بالون الزهو وانفتال حبال البأوِ بين جنَبات النفس في بعض مراحل التعلّم ثم استنامتهم عاجلا إلى وَأدِه ودسّ رِمَّته في التراب بعد المرور بموقفٍ صادمٍ أعاد لهم الاتزان النفسي والاعتدال الشُّعوري، فهذا إمام العربية أبو زكريا الفراء كان يختلف أيام الطلبِ إلى العلامة الكسائي، فقال له بعض الناس: ما اختلافُك إلى الكسائيِّ وأنت مثله في العلم؟! فأعجبته نفسه وداخَله شيء من الزهو، فناظرَه مناظرةَ الأكفاء بعد أن كان يسائله وينتفع به انتفاعَ الطلاب؛ يقول الفراء مصورا لحظات انفجار “بالون” الزهو العلمي بين جنبيه عند تلك المناظرة:
(فكأني كنت طائرا يشرب من بحر!).
وأمثال هؤلاء البوقاتِ والطُّبول الذين حفزوا أبو زكريا الفرَّاء على مناظرة الكسائي ثم أوقعوه في هذا الإحراج العلمي هم على مرّ العصور أكثرُ مَنْ يرعى بذورَ الزَّهو والانتفاخ في نفوس طلاب العلم ، فأكثر ما يغرُّ السالك في دروب المعرفة المتطاولة ويبعث في نفسه الفتور في مسالكها الممتدة هو هذه الاستنامة لتقييمات العامة والجهَّال ومن قال عن أحدهم الذهبي: (الجاهل لا يعرف مرتبة نفسه فكيف يعرف مرتبة غيره؟!) ولـمَّا أكثرَ الوقيعة في كبارِ الأئمة أحدُ الأفاضل من أهل العلم قال الفقيه ابن العربي المالكي مفسِّرا حاله: (اتَّفَق كَونُهُ بَينَ قَوم لا بَصَرَ لَهم إلا بِالمسَائل فإذَا طَالبهم بِالدليل كَاعُوا، فيتضَاحك معَ أَصحَابه مِنهم..) فلا شيءَ أصلح للسالك وأجمع لمعاني التواضع في قلبه من الإعراض عن تقييمات الفارغين والاعتبارِ بحال الأكابر وإدامة النظر في تراجم الأئمة ؛ قال الإمام أبو حنيفة:
(الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إليَّ من كثيرٍ من الفقه).
وقد ذكرَ مدارُ أسانيد السنة وملتقى طرقِها الإمامُ محمد بن شهاب الزُّهْرِيُّ انتفاعَهُ بأحدِ الأكابر في إعادة الاتزان للنفس والاعتدال في التقييم بعد إخلاده لشيءٍ من الوهْم الشعوري، فقال حاكيا تجربته الذهبية:
(كُنْتُ أَحْسَبُ بِأَنِّي أَصَبْتُ مِنَ الْعِلْمِ فَجَالَسْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ بن عبدالله فَكَأَنِّي كُنْتُ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ) .
*****
التواضعُ العلمي ليس معنى تَرَفيَّا يُقرأ في قراطيس أدَبِ الطَّلب ويُلقى في مفتتح حلقات تحفيظِ المتون ويُطوى بعد ذلك على الرفِّ ليعلوَه غبارُ السنين ، وإنما بالإضافة إلى كونه واجبا شرعيا وردَ التهديد المخيف الذي ترتعد له فرائص المؤمن عند وجود مقدار ذرَّةٍ تناقضه في القلب! كما في الحديث الذي رواه مسلم عن عبدالله بن مسعود مرفوعا: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرَّة من كبر..) هو أيضا من أعظمِ بواعثِ الاستفادة والانتفاع بالعلماء والاستزادة من المعارف، فالمزهو بعلمه المدلُّ بمعارفه قد وضع في قلبه حجازًا داخليا يحول بينه وبين الانتفاع بما استهان به، كما قال تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق) ووضع الشيخ محمود شاكر -رحمه الله- يدَه على موضع الداء فقال: (الاستهانة داء وبيل يطمس الطرق المؤدية إلى العلم والفهم) وهو ذريعةٌ عاجلةٌ للولوجِ في نفقٍ مظلمٍ من جَرِّ الثلب إلى رقابِ الأئمة وإطلاق ألسنة الجهَّال في تقييمهم من طرف اللسان ورأس القلم واستحلاءِ خفض مقام إمام ورفع مقام آخر دون حاجة ماسَّة وبلا منهجيَّة علميَّة منضبطة تطمئن لها النفوس وتذعن لها القلوب .
ومعرفةُ مقامات الأئمة وحفظ مكانتهم -حتى عند التخطئة- ليست مجرَّدَ نافلةٍ معرفيةٍ يثابُ فاعلها ولا يعاقب تاركها؛ بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- يرى أن حفظَ مقامِ الأئمة وتركَ كلِّ ما يجرّ إلى ثلمهم هو أحد ركني إقامة الدين! فيقول:
(دين الإسلام إنما يتم بأمرين : أحدهما : معرفة فضل الأئمة وحقوقهم ومقاديرهم , وترك كل ما يجر إلى ثلمهم . والثاني: النصيحة لله سبحانه ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم, وإبانة ما أنزل الله سبحانه من البينات والهدى).
ولأن كثيرا من سلوكيات الزهو وانتفاش الرِّيش تتوارى عادةً وراءَ ستارِ رقيق تسمِّيه النًّصح والبيان والنقد، وتظن أن ثمةَ تناقضا ومنافاةً بين الأمرين: حفظُ مقامِ الأكابر، وبيان ما ينفع الناس من أمر دينهم عند مخالفة أقوال العلماء بمنهجية صحيحة؛ نبَّهَ أبو العباس إلى أنه لا يضيق بجمعِ الأمرين إلا جاهلٌ بأحدهما، فقال بوضوح:
(إنما يضيق عن ذلك أحد رجلين: رجل جاهل بمقاديرهم ومعاذيرهم , أو رجل جاهل بالشريعة وأصول الأحكام) .
وأبو العباس حين استقرَّ في رُوعِهِ هذا الأدب المستنبطِ من أدلة الوحي الكثيرة سرى في تطبيقاته ورسائلهِ ومشروعه التصحيحيِّ كلِّه، ولا يمكن استدعاء نماذج كثيرة من كتبه لغزارتها مما لا تحتمله هذه المقالة الوجيزة، لكني أذكر موضعا واحدا يلحُّ على قلمي عند هذا الموضع، وستلحظ فيه شدَّةَ احتفالِهِ باستصحاب هذين الأصلين: حفظ مقامات الكبار، والنصيحة والبيان. فحينما غلَّطَ بعضَ المجوزين للحيل من المفتين، ورغم انطلاقه في فتياه من النصوصِ وجمعِ كلام الأئمة، كتَبَ كلماتٍ تؤكد للقارئ بأنه لم يفارق منهجيته الصارمة ولم يكف عن استحضارها حتى تحت وطأة الجدل والرد والنقض؛ فقال:
(إنما ذكرنا هذا الكلام على استكراه شديد منا لما يشبه العينة فضلا عن الوقيعة فِي أعراض بعض أهل العلم . ولكن وجوب النصيحة اضطرنا إلى أن ننبه على ما عيب على بعض المتقدمين من الدخول في الحيل , ونحن نرجو أن يغفر الله سبحانه لمن اجتهد فأخطأ, فإن كثيرا ممن يسمع كلمات العلماء الغليظة قد لا يعرف مَخرجها)
وانظر قوله –بعد سوقه الأدلة واحتجاجه بأقاويل العلماء-: (على استكراه شديد منا..وجوب النصيحة اضطرنا.. نرجو أن يغفر الله سبحانه..كثير ممن يسمع كلمات العلماء الغليظة قد لا يعرف مخرجها)!
فأين هذه المنهجية التيمية الصَّارِمَة ممَّن نَصَبَ خيمة النابغة الذبياني الحمراء في سوق عكاظ وتوكأ على أريكةٍ مريحةٍ داخلَها وطفقَ يرفع ويخفض في مقامات الأئمة والعلماء وأولي الفضل بلا حاجة أوَّلاً، وبلا منهجيةٍ منضبِطةٍ ثانيًا؟!
*****
لا ريبَ أن قدرًا من الزَّهوِ والفرحِ بالعلم والتحصيلِ هو أمرٌ طبعي مركوز في طبائع النفوس البشرية، وقد ذكرتُ بعضَ شواهده وحلَّلْتُ شيئا من طبيعتِه واستطردت بذكر بعضِ آثاره ؛ بل وحتى استشعار قدرٍ زائدٍ عابرٍ من السرور بالعلم والفرح بهطوله في ضفاف القلب معنى فطري يَتعذَّر نفيه وتصعب مكابرتُه ، إنما المراد تطويقُ تلك المشاعر الطبعيَّة بمعاني التواضع العلمي وذلك باستحضار جوانب القصور من جهة، ومعرفة مقامات الأكابر من جهة أخرى ، فأكبر خديعةٍ ربما التهمها طالب العلم في بدايات الطريق استشعاره أنه لا يفصله عن مقامات الأئمة إلا قراءة بضعة كتب وحفظ عدة متون وقراءة عدة شروح! إنه حين يمعن النظر في التراجم يدرك أن المسألة ليست كذلك ، وأن ذلك كان وهما جميلا كان غارقا فيه إلى القاع ، وأنه –حتى على افتراض استواء التحصيل العلمي- فقد سبق الربانيون بخصال متعددة كالصبر والورع والزهادة والانكفاف عن المشتبهات والعمل بالعلم ، وكل واحدة من هذه الخصال لها متون روحية وشروح وحواشٍ ومطولات، أي أن لها مدارج خاصة كخصلة العلم تماما(وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) .
وقبل أن أغادر نقطة استشعار الزهو والافتخار العلمي الذي يهجم على القلب ثم تجفيف منابعِهِ وتقليص آثارِهِ باستحضار جوانب القصور أوّلاً ومعرفة مقامات أولو الفضل ثانيًا، أودُّ أن أذكر نموذجين معاصرَين وهما مثالانِ جَلِيَّانِ يلخِّصان المقالة ، أحدهما العلامة المعروف سعيد الأفغاني عميد كلية الآداب بجامعة دمشق رحمه الله وهو ذو يد طولى في معرفة التراث والتاريخ واللغة، والآخر فاضلٌ من أحذق من أعرفُ من طلابِ العلم وأنفذهم غورا إلى بطون المسائل وأكثرهم حفاوةً بتحرير مواضع الإشكال في مضائق التعارضات ، وكلاهما رويا عن نفسيهما حكايتين معبرتين متشابهتين في المقدمات والنتائج .
أما العلامة المحقق سعيد الأفغاني فقد جرت له الحكاية بُعيد قيامه بمجهود علميٍّ جبارٍ أضناه في أعوام متطاولة، وداهمت عِطْفيهِ بعد إتمامه مشاعرُ الزهو والانتفاخ ، لكن كانت تنتظره مفاجأة كبرى لم تخطر بباله مطلقا، وقد قصَّ الأفغاني حكايته هذه في مقدمته التي كتبها لترجمة أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها المستخرجة من كتاب سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي ، فقال:
(لكي يخرج القارئ بفكرة مجملة عجلى عن المجهود العظيم المعجز الذي قام به المحدثون وخاصة الذهبي في سير النبلاء، أذكر أن الإمام الزركشي في كتابه عن السيدة عائشة: “الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة” ذكر من الرواة عنها: اثني عشر راويا ، وأني أضفت عليهم نحوا من ثمانين راويا ، جمعت أسماءهم في أعوام متطاولة، بعد الاطلاع على كتب الطبقات المخطوطة والمطبوعة، وعلى مصادر كثيرة جدا، حتى التي لا يُظنُّ أن يكون فيها شيء عن السيدة عائشة، فأوصلت بعد هذا العناء عدد الرواة عنها إلى التسعين، وأنا أرى أني أتيت بما لم يأت به الأولون ولا الآخرون!
ولكنني لم أكد أقرأ هذه الرسالة للذهبي ، وأراه قد زاد على هؤلاء التسعين نحو المئة، وأدهشني أنه أورد أسماءهم مرتبةً على الحروف…! أقول: لم أكد أجد ذلك حتى انطفأ فيَّ ذلك الزهو المنتفخ، وعرفت أني وألوفا من أمثالي! مهما جهدنا لا نبلغ أن نكون من أصغر تلاميذ مؤرخينا من أهل الحديث، لقد وَقَفوا أنفسهم على خدمة العلم، فأخلصوا له الخدمة، فآتاهم الله في ذلك المعجزات)
نعم.. انطفأ ذلك الزهو المنتفخُ في صدر العلَّامة سعيد رحمه الله، وسينطفئ حتما هذا الزهو الذي ما زال منتفخا وسيأخذ حجمه الطبيعي جدا في كلِّ صدرٍ يوفقه الله لمعرفة مقامات الأئمة ومقادير العلماء أو يجيل النظر بإمعان في ما تركوا من علوم ومعارف!
أما صاحبي فله قصةٌ لطيفة مع بعض الرسائل العلميَّة المعاصرة، أفضى بها إليّ مشافهةً، ثمَّ التمستُ منه أن يبعثها مرقومةً ، فكتب رسالةً جميلة جدا ، حلَّلَ فيها طبيعة الظاهرة ، وما تركته عليه من آثار، وضمَّنَها الدرسَ المستخلص منها، فقال:
(تمر بالقارئ والباحث لحظات في ثنايا التنقيب العلمي ينتفخ فيها الزهو الذاتي وهو لا يدري بنفسه، ثم يمر به مشهد يوقفه على حقيقته! ومن أكثر هذه المشاهد مروراً بي: سبق المعاصرين بعقود لما أنا حديث العهد بلذة فهمه! ومن ذلك مثلاً: أذكر مرةً أنني قرأت في بعض المصادر المعتزلية المتقدمة تقريرات كلامية؛ فظهر لي من ارتباطاتها وتلازماتها مع بعض المسائل الكلامية الأخرى في المذهب الأشعري، وأثرها “العكسي” في ظهور الفكرة الأشعرية؛ ما فرحت نفسي به، بل وحدثت نفسي بوجوب أن أكتب عن هذا الموضوع الذي أحسست باكتشاف الخيوط العقدية المضمرة له، ثم بعد مدة وقفت على بضع رسائل عقدية أكاديمة مسجلة في أعوام 1405هـ وما حولها، ومطبوعة في تلك المرحلة، نبّهت على هذه المسائل بكل هدوء، فكأنما كانت وخزة انفجر بها بالون الزهو الخفي في عطفيّ! وهذا مشهد تكرر معي كثيراً، حتى أورثني الاحتراس من صدمة الاكتشاف الأولي أن لا تجرني إلى رعونات حداثة العهد بالأمر! بل صار من المتكرر معي وأنا أقرأ في بعض المسائل التي تهمني وتعمقت في بحثها أن أطوي الصفحة وأعود لأنظر سنة نشر الكتاب، ولا أكتفي بما رقم في أوله من “تاريخ النشر” إذ قد تكون طبعة متأخرة، بل أذهب لذيل مقدمة المؤلف وأرى السنة التي كتب فيها المقدمة، وكثيراً ما تكون لي مفاجئة.. ولطالما قلت في نفسي: يا الله .. هؤلاء بحثوا المسألة في مطلع التسعينات الهجرية! أي قبل ولادتي أصلاً! أو أقول في نفسي: سبحان الله، هذا المؤلف وقف على هذه الدقائق ونشر الكتاب بينما كنت في الصف الأول الابتدائي! وقد ألِفت مثل هذه المقارنات التي تضع المرء في وزنه الطبيعي، وتهز الوعي العاقل الرزين أن لا ينخدع بتعاظم الشبر الأول في طريق العلم.. )
أعلم جيدا أن أولَ شيء تداعى في ذهنك أخي القارئ حينما قرأت هذه التجربة اللطيفة استذكارُ مشاعرِ الزهو المعرفي التي اجتالتك يوما ما وأنت خالٍ وحدكَ تتدبر بإمعان آيةً في كتاب الله فاهتديت فيها إلى معنى تأمُّليٍّ شريفٍ يدلُّ عليه سياق الآية ولا يتعارض مع تفسيرها، أو توصلتَ إلى علَّةِ حديثٍ بعد أن أنفقت في تخريجه والتمعن في سلسلة إسناده وسماعاتِ رجاله ساعاتٍ طوال، أو اطمأننت إلى حلِّ إشكال متوهَّم بسببِ نصَّين ظاهرهما التعارض ، وتتذكر جيدا اغتباطَ قلبك بمشاعر مكتشفي المناجم المطمورة ، ثم بعد ذلك بزمن وأنت في مكتبتك تقلب كتابا من كتب أهل العلم إذا بك تقف على المعنى الذي كنت تظن نفسك الأسبقَ إليه ، بل وتجده مذكورا بصورة أكمل وبعبارة أجمل مع التدليلِ عليه ونقضِ ما يعارضه من احتمالات، وكلُّ هذا في كتابٍ وضعه مؤلفه قبل ولادتك بأكثر من قرنين! ونظائرُ هذا الموقف وأشباهُهُ لا شك بأنها تكثر في مدارج الطلب كلِّها ، ويفرح به طالب العلم من جهةِ شعوره أن ذهنه يسير على الطريق الصحيح ويردُ على مواردِ أذهانِ العلماء، وهو من جهةٍ أخرى يُحجِّم “بالون” الزهو الخفيٍّ في الأعطاف حتى يكاد يتلاشى في لحظات!
وقد لحظتُ مفارقةً عجيبةً تتوالى أمام عيني شواهدها يوما بعد يوم، وهي أن أكثر الناس لا يكاد ينفكُّ من تعظيمِ أحدٍ أصلا، فحتَّى أولئك الذين يجرُّون أعطاف الزهو وتطول ألسنتهم في الوقيعة في أكابر الأئمة باسم الاستقلال وتساوي الرؤوس، وتسبح خيالاتُ أحدهم في اليقظةِ والمنامِ في توهِّم أن منكبِهِ العلميِّ الغضّ يحاذي مناكب الأئمة: الأوزاعي والليث بن سعد ومحمد بن إسماعيل وشعبة بن الحجاج وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل ومن أخذ عن هؤلاء من أكابر الفقهاء، حتى هؤلاء المسترسلين مع هذه الأخيلة الطريفةِ تجدُهم في غاية الإجلال والخضوع لمعظَّميهم، بل قد يصل الإفراط في التعظيم عند أحدهم أحيانا إلى درجة الغلو المنهيِّ عنه شرعا، فهذا الشيخ المصري محمد عبده -وهو بحسب رأي الشيخ محمود شاكر قد أحدثَ بمنهجه الجريء على العلماء أولَ صَدع في تراث الأمة العربية الإسلامية- يقول باسترسال تام مطريًا شيخَهُ الذي خرج من عباءته جمالَ الدين الأفغاني بأن (في قوة بيانه ما يشكك الملائكة في معبودهم، والأنبياء في وحيهم!) معاذ الله من جرحِ مشاعر القرَّاء بسَوق هذه العبارات الغالية إلى أحداقِهم الوضيئةِ بلا موجب! وإنما الذي دعاني لسوقِها هنا أنني حينما قرأتها؛ قفزت ببالي على الفور تلك العبارة العبدويَّة الموحِشَة الموغِلة في الفَجاجة والتي نقلها عنه تلميذه محمد رشيد رضا التي شتم بها “فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم” فقال عنهم بأنهم (حرّفوا “كلَّ” نصوص الكتاب والسنَّة، إن اليهود لم تحرف التوراة أكثر مما حرفوا..) لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم! وهكذا حينما يضيع الاتزان النفسي تطول الألسنة حيثما يجب أن تقصر، وتلغ الأقلام حينما يجب أن تتنزَّه! وما أقرب أن يُقال على وِزان بيت ابن القيم –رحمه الله- في نونيَّته: (هربوا من توقير الأكابر، فبُلوا بتوقير الأصاغر!) وهذه المفارقة في التوقير والاستقلال التي لحَظَها القارئ تتضاعفُ عندي شواهدها وتتوالى يوما بعد يوم ، فجرتِ العادةُ أن لا يُسرف الإنسانُ في شيء ويمنحه فوق قدره سواءً كان شيخا أو اتجاها أو منهجا ؛ إلا ووراء إسرافه هذا حقوقٌ مُضاعة!
*****
ثمةَ سرابٌ بِقيعةٍ يحسبه الطالبُ ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، ووجد عنده قوارب أوهامه ترتطم على سفح من الحقائق اليقينية في طريق المعرفة والتعلُّم، فإن أدركت هذا الطالبَ رحمةُ الله فلَطَفَ به وغَفَرَ له سابق ظنونِهِ السَّادرةِ في الغَفلة والدائرةِ في فلكِ الذاتِ، واستجابَ لتمتماته الحرَّى المنبعثةِ من صدره: “يا دليل الحائرين اهدني..” تفيض بها شفتاه باستسلامٍ تام وهو يرمق أفق السَّماء بعينٍ حاسرة الطَّرف؛ سِيقَت قدماه الناحلتان لتخطو باسمِ الله فوقَ فِجاجَ النور وتَرِدَ منابع الهدى بعد أن ذَرعتا بُنيَّاتِ الطريق وجابَتا مفاوز الوَهْم، وإلا ظلَّ أبدًا سابحا في وِديان ذاته الضيقة، يتجلجل بها ما دامت أنفاسه تتردد في صدرٍ مكتنزٍ بتمدّد “الأنا” ؛ والسُّنَّة الماضية أنه حيثما تمدَّدت “الأنا” على ضفاف قلبٍ بَشَريٍّ انكمشتْ فيه ضَراعةُ الاهتداء والائتساء!