أ.د. ناصر العمر
الحمد لله القائل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29]، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف من الآية:3]، أمرهم الله بالتدبر فإذا هم يتولون عما جاءت به الأنبياء مدبرين، فسبحان من أعمى الذي أبصر الآيات وحلاوتها، ووجد طلاوتها ومع ذلك حُرم تدبرها، فأدبر واستكبر، فلا جرم أن يدبر مع المدبرين {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ۗ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر:33]، وحري بمثل هذا نارٌ تلظى، تدعو من أدبر وتولى. وبعدُ إخوةَ الإسلام وحتى لا نكون في عِداد أولئك المعرضين كان حري بنا أن نعمل على تدبر كتاب ربنا صباح مساء، وذلك سبب كاف. غير أن لتدبر كتاب الله جل وعلا أسباب أخرى كثيرة، أذكر فيما يلي بعضها مع إشارات يسيرة، أسأل الله أن تكون دافعة لنا إلى العمل على تدبر كتاب ربنا، فمن تلك الأسباب التي تحض على التدبر:
أولًا: ضرورة ربط واقع الناس بالقرآن والسنة، لما لهما من أثر على حياة الفرد والأمة، خاصة وأن الأمة تعيش وهنًا وضعفًا لم تمر بمثله في تاريخها، وكلنا يبحث عن العلاج والعلاج في القرآن {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء من الآية:9]، وكلنا يرجو السلامة والنجاة من مضلات الفتن التي تتابع، والنجاة في القرآن؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني قد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتُم به فلن تَضِلُّوا أبدًا ، كتابَ اللهِ ، و سُنَّةَ نبيِّه» (صحيح الترغيب [40]).
فرغد الحياة في كتاب الله جل وعلا، ومعالجة مشكلات الحياة في ضوء القرآن الكريم من أقوى وسائل الخروج منها، بل من أقوى أسباب رقي الأمة، والعود بها إلى سابق عهدها، الذي كان يعيشه السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، وهذا لا يكون بغير تدبر كتاب ربنا وكلامه الذي أنزله لإصلاح شأننا.
إن أمتنا اليوم تعيش وقتًا حرجًا ومرحلة حاسمة من تاريخها، خاصة بعد الغزو الغربي لأمة الإسلام، وعودة عصور الاستعمار التي خَلَت، فبعد أن رزحت الأمة تحت وطأة الاستعمار عقودًا دُرست فيها معالم من علم الشريعة كانت لا تخفى بين الناس، بدأت آثار الاستعمار تنحسر بقيام الصحوة الإسلامية المباركة في المشارق والمغارب، فلم يجد الأعداء بُدًا من إعادة الكرة للحيلولة بين الأمة وبين نهضتها. ولما كان الارتباط بين الأمم السابقة واللاحقة وثيقًا، لتشابه الأحوال والظروف، وتوافق الطبع البشري، وإن اختلفت العصور والآلات، كان من الطبيعي أن تكون في آيات الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بل هو تنزيل من حكيم حميد كان لابد أن تكون آياته دروسًا تناسب حال من نزل عليهم القرآن، وكذلك تناسب المسلمين في كل زمان ومكان.
وقد قال الإمام الشاطبي رحمه الله:
وبعد فإن حبل الله فينا كتابه *** فجاهد به حَبل العِدا مُتَحَبِّلا
وأَخْلِق به إذ ليس يَخْلَقُ جِدةً *** جديدًا مواليهِ على الجِدِّ مُقبِلًا
فهل من تالين لكتاب ربهم، متدبرين خطاب خالقهم وكلامه لهم، يخرجون بحبله المتين أمة غرقى؟
أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم.