عبدالصمد المومني
عندما أَمَرَ الله – سبحانه وتعالى – عبادَه بتدبُّر القرآن الكريم، وحثهم على ذلك حثًّا، لم يتركْهم يفعلون ذلك من غير أدوات، بل زوَّدَهم بمستلزمات التدبُّر والاستبصار؛ من عقل، وقلب، وعلوم، وآيات مسطورة، وأخرى منظورة.
وهو الذي قال – تعالى ذكْرُه – في محكَم التنزيل: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، وَلَمَّا كان الأمرُ بالتدبُّر مطلوبًا – بل واجبًا – فأي آي القرآن أَوْلَى بذلك؟
لا شك أنَّ القرآن الكريم بكلِّ أجزائه يستلزم منَّا التدبُّر والتفكُّر، لكن القصص المبثوثة فيه لا تَتْرُك لقارئها أيَّة فُرصة ليمرَّ عليها من غَيْر استِبْصار، بل يجد قارئُها نفسه مُنخَرطًا في سلسلة من التساؤُلات التي تدعوه وتلح عليه؛ كي يستنبطَ منها، ويتزوَّدَ على قدْر استيعابه وفَهْمه واستعداده وجهْده.
ومنَ القَصص القرآني التي استوقفَتْني كثيرًا، وألَحَّتْ عليَّ، مع كثرة التَّرْداد والتَّكْرار: قصةُ نبي الله شعيب – عليه السلام – وسأُحاول جاهدًا – سائِلًا منَ الله العَوْن والسداد؛ فهو الموفِّق لكل خيرٍ ورشاد، والموفَّق مَنْ وفَّقَهُ الله – أن أقِفَ على بعْضِ مكنُونات هذه القِصَّة العظيمة وأسرارها.
يقول تعالى: ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88]، ففي الآية الكريمة توجِيهات تربويَّة، وأُصُول دعويَّة، تُشَكِّل زادًا قيِّمًا للداعية إلى الله، لا يُمكن إلَّا أن تعينه في مسيرته النبيلة المباركة.
ويُمكِن أن نقسِّم الآية – موضوع التدبُّر – إلى تسعة مقاطع تربوية:
1- مدُّ الجسور.
2- اليقين في الدَّعوة.
3- مشاهَدة المنَّة، وشُكر نِعَم الله.
4- مطابَقة القَوْل للعمل.
5- الإصلاح رسالة الأنبياء والمصلحين.
6- بين الوسع الصادق والوسع الكاذب.
7- التوفيق من الله.
8- خمس بخمس.
9- ومَن أوفَى بعهده من الله.
1- مد الجسور:
قوله – عز وجل -: ﴿ يَا قَوْمِ ﴾، فيها استدراجٌ جميل، وتقريب للمدعو، وهذا النِّداء لا تخلو منه قصة نبي أو مُصلح؛ لأنَّ فيه منَ التودُّد مع المدعو ما يجعل جسور القرب تَمْتَد، وفيه من مقابَلة الجحود والاستهزاء بالحلْم والأناة ما يجعل أبواب القرب تنفتح.
وهي أدوات الرُّسُل والمصلحين الضروريَّة؛ لإصلاح القلوب والنفاذ إلى سوَيْدائها، وهذه هي عين الحكمة في قوله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ ﴾ [النحل: 125]، هذه الحكمة المفْقُودة في خطاب كثيرٍ مِمن انْتَسَبوا للدعوة زورًا وكذبًا، وهي في الحقيقة سلاح الدُّعاة إلى الله، فقول نبي الله شعيب: ﴿ يَا قَوْمِ ﴾، تذيب الجليد الممْتَد بينه وبين قومه، وتُقَلِّل من الجفاء والتنافُر، فمُبادأة القوم بهذا النِّداء الرباني يُشعرهم بقُرْب الداعية منهم، وكأنه منهم، وكأنهم منه، وخاصة من نفسه، وهذا لعمري كَفيلٌ بزرْع الثِّقة في الأنفس واستِمالة القلوب.
2- اليقين في الدَّعوة:
قوله – عزَّ من قائل -: ﴿ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ﴾، تأْكيدٌ مِن نبيِّ الله شعيب لِقَوْمه، على أنه على هَدْي ربِّه المستقيم، ويقين منه فيما يدعو إليه، وهذا لعمري ضروريٌّ وأساسي لكلِّ صاحب دعوة؛ إذ كيف يدعو لأمْرٍ هو نفسه غير آخِذ به، ولا متشبِّث به، فشُعيب – عليه السلام – على بيِّنة من أمْرِ دعوته، وليس بدعيٍّ كذابٍ، بل هو مؤمن برسالته وبتأييد الله له بالحُجَج النيِّرات، وواضح الدلالات، وانْظُر لدِقَّة الأسلوب القرآني وهو يربِّي الدعاة والمصلحين في كلِّ زمان ومكان.
﴿ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ﴾، لفتة جميلة تحرِّك الأحاسيس لتقر بالعجز البشري، وفي نفس الآن تحُضُّ على اتِّخاذ الأسباب المُمكِنة من علْم وحسن استدلال وإيمان بالدعوة وإخلاص فيها؛ لأنَّ للناس أحاسيسَ ومجساتٍ، تقيس بها حرارة الخطاب الدعوي وصدقه؛ ولهذا كان لِزامًا على الدُّعاة إلى الله أن يتزَوَّدُوا لدَعْوتهم، ويحسنوا في بذْل المسْتَطاع ما اسْتَطاعوا لذلك سبيلًا.
3- مشاهَدة المنَّة، وشُكر المنْعِم:
قوله – عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ﴾: اعتراف من نبيِّ الله شعيب برِزْق ربِّه، وشكره على فضْله وإحْسانه، والناسُ أمام شُكْر النِّعَم أصنافٌ شتَّى؛ فمنهم الغافل الجافي، ومنهم الجاحِد المنكر، ومنهم الشاكِر المقَصِّر، يقول ابن القيِّم في “الوابل الصيِّب”: شُكر النِّعمة مقيَّد بثلاث: الاعْتراف بها باطنًا – التحدُّث بها ظاهرًا – وتصريفها في مرضاة مسديها ووليها، وهو في ذلك مقَصِّر في شُكرها.
وهذه الآية تربِّي في الداعية خُلُقَيْن اثنَيْن:
أولهما: مُطالَعة عيْب النفس والعمل.
وثانيهما: مُشاهدة المنَّة، والاعتراف بالنِّعمة ومسديها.
وهذا ما عبَّر عنه الحديثُ الشريف؛ فعن شداد بن أوس، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنتَ ربِّي، لا إله إلا أنت، خلقْتني وأنا عبدك، وأنا على عهْدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوء لك بنعمتكَ عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفِرْ لي؛ فإنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت))، قال: ((ومَن قالها من النهار مُوقنًا بها فمات من يومه قبل أن يمسي، فهو من أهْل الجنة، ومَن قالَها من الليل وهو مُوقن بها، فمات قبل أن يصبح، فهو من أهل الجنة))؛ رواه البخاري.
فقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي))، الأولى: توجب للداعية المحبَّة والحمد والشكر لوليِّ النِّعمة، والثانية: توجب له الذُّل والافْتِقار إلى ربِّه، وتسديده في دعوته، فهو لا يرى نفسه إلا مقصِّرًا، وهذا من خير الزاد.
4- مطابَقة القول للعمل:
قوله – عز وجل -: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾: ذلك أنَّ صاحب المنهج المعوج والرسالة الكاذبة يأمر الناس بفعلٍ، ويأتي عكسه، وهذه قاصمة، وتأمَّل معي – رعاك الله – حديثَ الصادق المصدوق؛ فعن أسامة بن زيد، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((يُجاء بالرجل يوم القيامة، فيُلْقَى في النار، فتندلق أقتابه في النار فيطحن فيها كطحن الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أي فلان، ما شأنك؟! أليس كنت تأمُرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟! قال: كنتُ آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه))؛ متفق عليه.
إنَّ سرَّ نجاح الدعوة وتوفيق الداعية مُرْتَهِنٌ بأمرَيْن: صدقٌ في القول والعمل، واستحضارٌ لِمُراقبة الله له؛ ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]، وهذا لعمري كفيلٌ بِجَلْب حب الله ورضاه، وما أحوجَ الداعيةَ لهذا السرِّ!
5- الإصلاح رسالة الأنبياء والمصلحين:
قوله – عز وجل -: ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ ﴾، وهذا لبُّ الأمرِ وأُسُّه؛ فالإصلاح هو مَقْصد بعْثة الرسُل والأنبياء والمصلحين، فنبي الله شعيب حين ردَّد هذه الكلمات: ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ ﴾، فكأنما كان يتحدَّث بلسان الرُّسل والأنبياء جميعًا، وبقدر ما يكون الإصلاحُ قائمًا مستمرًّا عامًّا في الناس، فهُمْ في منجًى منَ الهلاك والعقاب، وبقَدْر ما يفرِّطون في وظيفة الإصلاح، ويُمسكون عنه، ويتركون الإفساد يعيثُ في الأرض، وأولياؤه يَصُولون ويَجُولون من غَيْر مُدافَعة الخير لهم – يهلك الحرْث والنسْل، ويحل العقاب، وتتنَزَّل النِّقَم.
6- بين الوسع الصادق، والوسع الكاذب:
قوله – عز من قائل -: ﴿ مَا اسْتَطَعْتُ ﴾، هذه اللطيفة – التي جاءت عقب الإصلاح – فيها إقرارٌ بالضعْف؛ ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾، وفيها إرشاد للدُّعاة والمصلحين لبَذْل المُسْتَطاع في حُدُود الوسع البشري؛ يقول تعالى: ﴿ وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ ﴾ [المؤمنون: 62]، هذه الآية الكريمة تضع القانون المطلق بالحق المطلق، ﴿ وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾، يقول د. عدنان رضا النحوي: “فلا يأتي التكليف من عند الله إلا في حُدُود وسع الإنسان؛ فالله هو الخالِق، وهو أعلَمُ بوسْع الإنسان وطاقته وقدرته، والوسع الذي سيُحاسبه الله عليه يوم القيامة إنه الوسع الصادق، حتى نفرقه عن الوسع الكاذب، الوسع الذي يرسمه الهوى والأوهام، والذي يلتمس به الإنسان الأعْذار، ليسوغ به وهنه وعجزه وضعفه”؛ انتهى.
فكم من مسؤولية فرَّطْنا فيها! وكم من فرصة ضيَّعناها! وكم مِن مصْلحة لم نبذلْ في سَبيلها وسْعنا الصادق، فانقلبتْ إلى مفْسدة، وسنحاسب عليها غدًا يوم القيامة! فتأمَّل هذه البصائر الرَّبانيَّة.
7- التوفيق منَ الله:
قوله تعالى: ﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ﴾، إرشاد آخر من العلِيِّ القدير لعبادِه المصلحين: أنَّ العمل مهما بذل فيه من جهد يبقَى التوفيقُ منه وحْده؛ حتى لا يتَّكِل الدَّاعيةُ على الأسباب، ويربط التوفيق بكدِّه وسَعْيِه، ومناسَبة النتائج للأسباب.
ولهذا نرى نبي الله شعيبًا – عليه السلام – يضع حدودًا لنفْسه ويلتزم بها؛ ﴿ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾، فما التوفيق في الدَّعْوة، واستجابة الخلق لها إلا من الله، فربَّما فَتَحَ الله عليك باب العمل، ولم يفتحْ عليك باب القبول، وربما فَتَحَ عليك بابَ العِلْم، ولم يفتحْ عليك بابَ الإخلاص، فاطرق أي باب شئْتَ، واسأل التوفيق منه وحْده.
8- خمس بخمس:
قوله تعالى: ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾، جاءت الآية بهذه الصِّيغة بتقْديم المعمول على العامل؛ لتُفيد الحَصْر والقَصْر، وهذا غير قول القائل: توكَّلْتُ عليه؛ إذ هذه تُفيد التوكُّل على الله وعلى غيره، لكن الأُولَى فيها قصْر التوكُّل على الله وحده، والتوكُّل مطْلوب في أُمُور الدُّنيا كلها، وخصوصًا في تحقيق مرادات الله من عباده؛ كالجهاد، والدعوة، وإقامة الخلق على مراد الخالق.
فالتزام الداعية في دعْوته بهذا الرُّكن الركين من الدِّين، يفْتح عليه أبواب القَبول، وسُبُل الهداية، كما يُغلق عليه أبواب الوسواس، والالْتِجاء إلى غير الله، فالله – المقَدِّر لمقادير الأُمُور، ومُصَرِّف أسبابها – أَمَر العبْدَ بأمْرٍ، وضمن له ضمانًا، فإنْ قامَ العبدُ بواجِب النُّصح والإصلاح، قامَ الله سبحانه له بما ضمن له منَ الرزق والكفاية والنصْر، فهو سبحانه ضمن خمسًا بخمس:
1- ضمن الرِّزق لِمَن عَبَدَهُ.
2- والنصر لِمَن استنْصَره، وتوكَّل عليه.
3- والكفاية لِمَنْ كان اللهُ هَمَّه ومُرادَه.
4- والمغْفرة لِمَنِ استغْفَرَه.
5- وقضاء الحوائج لِمَن صدقه في طلبها، وقوي رجاؤُه في ميسرها.
9- ومَن أَوْفَى بعهده من الله:
قوله – عز وجل -: ﴿ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾، فما دام التوفيقُ من الله، والتوكُّل عليه والإنابة إليه، فالمسالة محسومة إذًا، فنبيُّ الله شعيب – عليه السلام – على يقينٍ تامٍّ من أمْرِ دَعْوَتِه، متبصر بمنهج الله، مقبل عليه، واثق من نصره، وهذه هي المحدَّدات الأربعة الضرورية لنجاح أية دعوة، وهي دعامات العَمَل الإسلامي الراشد، وهي أساسُ كلِّ إصلاح، وهي في الأخير خُلاصة هذه القصَّة العظيمة؛ قصة شعيب – عليه السلام.
يبقى أنْ نُشير إلى أنَّ أيَّة دعوة راشدة لا بد لها مِن جماعة تَحْتَضِنها، وتسير بها وتدعمها بالعلم والعمل؛ لأنَّه منَ المعلوم بالضرورة في أمْر الدعوات: أنَّ دعْوة الأنبياء يسددها الوحي، ودعوة المصلحين يدعمها الجهْد البَشَري، الذي يبْقى دائمًا ناقصًا، وقابلًا للتقويم، وهذا لا ينقص من أهمية هذا العمل الجليل؛ خاصة إذا استَحْضَرْنا فيه أجْر الهداية، ومع مَن نُتاجر، إنها تجارة تَرُوم الجنة، إنَّها تجارة مع الله؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111].