علي ونيس
قال النَّووي في (فصلٌ في استحباب ترديد الآية للتَّدَبُّر): “وقد قدمنا في الفصل قبله الحثَّ على التَّدَبُّر وبيان موقعه وتأثر السَّلَف، ورُوِّينا عن أبي ذر – رضي الله عنه – قال: قام – صلى الله عليه وسلم – بآية يرددها حتى أصبح، والآية {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الآية، رواه النسائي وابن ماجه.
وعن تميم الدَّاري – رضي الله عنه – أنه كرر هذه الآية حتى أصبَحَ، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21] الآية.
وعن عبادة بن حمزة قال: دخلت على أسماء – رضي الله عنها – وهي تقرأ {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ}، فوقفت عندها فجعلت تعيدها وتدعو فطال علي ذلك، فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي ثم رجَعَت وهي تعيدها وتدعو. ورويت هذه القصة عن عائشة – رضي الله تعالى عنها.
وردد ابن مسعود – رضي الله عنه -: {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}.
ورَدَّدَ سَعِيد بن جبير: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281].
وردد أيضًا: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [غافر: 70، 71] الآية.
وردد أيضًا: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6].
وكان الضَّحَّاك إذا تلا قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16] رددها إلى السحر[1].
عن حوْشب عن الحسن قال: “تفقدوا الحلاوة في ثلاث: في الصلاة، وفي القرآن، وفي الذكر؛ فإن وجدتموها فامضوا وأبشروا، فإن لم تجدوها فاعلم أن بابكَ مغلق” [2].
– عن معمر مؤذن التيمي قال: “صَلَّى إلى جنبي سليمان التيمي بعد العشاء الآخرة، وسمعته يقرأ: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1]، قال: فلمَّا أتى على هذه الآية: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الملك: 27] جَعَلَ يُرَددها حتى خفَّ أهل المسجد فانصرفوا، قال: فخرجت وتركته، قال: وغدوت لأذان الفجر فنظرت فإذا هو في مقامه، قال: فسمعت فإذا هو فيها لم يَجُزْها، وهو يقول: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الملك: 27]” [3].
– عن يحيى بن الفضل الأنيسي قال: “سمعت بعض مَن يذكر عن محمد بن المنكدر أنه بينا هو ذات ليلة قائم يصلي إذ استبكى وكثر بكاؤه حتى فزع أهله وسألوه: ما الذي أبكاه؟ فاستعجم عليهم وتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى أبي حازم فأخبروه بأمره فجاء أبو حازم إليه فإذا هو يبكي، قال: يا أخي، ما الذي أبكاك قد رُعْتَ أهلك؟ أفمن علة أم ما بك؟ قال: فقال: إنه مرَّت بي آية في كتاب الله – عزَّ وجلَّ – قال: وما هي؟ قال: قول الله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]، قال: فبكى أبو حازم أيضًا معه واشتد بكاؤهما، قال: فقال بعض أهله لأبي حازم: جئنا بكَ لتُفَرج عنه فزدته، قال: فأخبرهم ما الذي أبكاهما”[4].
– عن أحمد بن أبي الحواري قال: “سمعت أبا سليمان الداراني يقول: “ما رأيت أحدًا الخوف أظهر على وجهه والخشوع منَ الحسن بن صالح بن حيي، قام ليلة بـ{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1]، فغشي عليه فلم يَختمها حتى طلع الفجر” [5].
– قال أبو يوسف الفولي: “سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: لقيت عابدًا من العُبَّاد قيل: إنه لا ينام الليل فقلتُ له:لم لا تنام؟ فقال لي: منعتني عجائب القرآن أن أنام”[6].
– عن عبدالله بن أبي سليم قال: “كان علي بن الحسين إذا مشى لا تجاوز يدُه فَخِذَه، ولا يخطر بيده، وكان إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة، فقيل له: مالك؟ فقال: ما تدرون بين يدي مَن أقوم ومن أناجي؟!” [7].
– عن أبي نوح الأنصاري قال: “وقع حريق في بيتٍ فيه علي بن الحسين وهو ساجد، فجعلوا يقولون له: يا ابن رسول الله، النارَ، يا ابن رسول الله، النارَ، فما رفع رأسه حتى أطفئت، فقيل له: ما الذي ألْهاك عنها؟ قال: ألْهتني عنها النارُ الأخرى”[8].
– وكان ثابت البُناني يقول: “ما شيء أجده في قلبي ألذ عندي من قيام الليل”[9].
– وعن عبدالله بن مسلم بن يسار عن أبيه: أنه كان يصلي ذات يوم فدخل رجل من أهل الشام ففزعوا، واجتمع له أهل الدار، فلما انصرفوا قالت له أم عبدالله: دخل هذا الشامي ففزع أهل الدار فلم تنصرف إليهم أو كما قالت، قال: ما شعرت”.
– وقال معتمر: “وبلغني أنَّ مسلمًا كان يقول لأهله: إذا كانت لكم حاجة فتكلَّموا وأنا أصلي”.
– وعن عبدالله بن مسلم بن يسار عن أبيه قال: “ما رأيته يصلي قط إلا ظننت أنه مريض”.
– وعن ابن شوذب قال: “كان مسلم بن يسار يقول لأهله إذا دخل في صلاته في بيته: تحدثوا فلست أسمع حديثكم”.
– وعن ميمون بن حيان قال: “ما رأيت مسلم بن يسار ملتفتًا في صلاته قط خفيفة ولا طويلة، ولقد انْهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدمه، وإنه لفي المسجد في الصلاة فما التفت”.
– وعن عبدالحميد بن عبدالله بن مسلم بن يسار عن أبيه قال: “كان مسلم بن يسار إذا دخل المنزل سكتَ أهلُ البيت، فلا يسمع لهم كلام، وإذا قام يصلي تكلموا وضحكوا”.
– وعن غيلان بن جرير قال: “كان مسلم بن يسار إذا رُؤي، وهو يصلي كأنه ثوب ملقًى”.
– وعن ابن عون قال: “كان مسلم بن يسار إذا كان في غير صلاة كأنه في صلاة”.
– وعن عبدالله بن المبارك: قال سفيان عن رجل عن مسلم بن يسار أنه سجد سجدة فوقعت ثنيتاه فدخل عليه أبو إياس فأخذ يعزيه ويهون عليه، فذَكر مسلمٌ من تعظيم الله – عز وجل.- وعن ابن عون قال: “رأيت مسلم بن يسار يصلي كأنه وتد لا يميل على قدم مرة ولا على قدم مرة ولا يتحرك له ثوب”[10].
– قال الإمام النووي: “فصل في البكاء عند قراءة القرآن“: قد تَقَدَّمَ في الفصلين المتقدمين بيان ما يحمل على البكاء في حال القراءة، وهو صفة العارفين وشعار عباد الله الصالحين قال الله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109].
وقد وردت فيه أحاديث كثيرة وآثار السلف فمن ذلك عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((اقرؤوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا)).
وعن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: أنه صلى بالجماعة الصبح فقرأ سورة يوسف فبكى حتى سالت دموعه على ترقوته، وفي رواية: (أنه كان في صلاة العشاء)؛ فيدل ذلك على تكرره منه، وفي رواية: (أنه بكى حتَّى سمعوا بكاءه من وراء الصفوف).
وعن أبي رجاء قال: “رأيت ابن عباس وتحت عينيه مثل الشراك البالي من الدموع”.
وعن أبي صالح قال: “قدم ناس من أهل اليمن على أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – فجعلوا يقرؤون القرآن ويبكون، فقال أبو بكر الصديق – رضي الله عنه -: هكذا كنا.
وعن هشام قال: “ربَّما سمعت بكاء محمد بن سيرين في الليل وهو في الصلاة”.
والآثار في هذا كثيرة لا يمكن حصرها، وفيما أشرنا إليه ونبهنا عليه كفاية، والله أعلم.
قال الإمام أبو حامد الغزالي: “البكاء مستحب مع القراءة وعندها، وطريقه في تحصيله أن يحضر قلبه الحزن بأن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد الشديد والمواثيق والعهود، ثم يتأمل تقصيره في ذلك، فإن لم يحضره حزن وبكاء كما يحضر الخواص فليبك على فقد ذلك فإنه من أعظم المصائب”[11].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – “التبيان في آداب حملة القرآن”: 44.
[2] – “الحلية”: 6 / 171.
[3] – “الحلية”: 3 / 29.
[4] – “الحلية”: 3 / 146، و”صفة الصفوة”: 1 / 416.
[5] – “الحلية”: 7 / 328.
[6] – “الحلية”: 8 / 30.
[7] – “صفة الصفوة”: 1 / 389.
[8] – “صفة الصفوة”: 1 / 389.
[9] – “صفة الصفوة”: 2 / 157.
[10] – كل ما ذكر عن مسلم بن يسار في “الحلية”: 2 / 291.
[11] – “التبيان في آداب حملة القرآن”: 45، ولتراجع في هذا وغيره الكتاب المذكور للإمام النووي – رحمه الله – ففيه خير كثير.