محمود الدوسري
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
زعم أعداءُ الإسلام أنَّ القرآنَ العظيم كتاب تاريخي، خاطب عصراً محدَّداً فقط ثم انتهت صلاحيته بعد ذلك، ولم يَبْقَ له في الواقع المعاصر أدنى تأثير!
ونحن المسلمين نعتقد اعتقاداً جازماً لا مرية فيه، أن القرآن العظيم هو الكتاب الذي خاطب الله تعالى به جميعَ البشر إلى يوم القيامة، فلم يُقَيَّدْ بزمان، ولا بمكان، ولا جنس، ولا طبقة، بل هو موجَّهٌ إلى الثَّقلين، في كلِّ زمانٍ ومكان، خاطبهم جميعاً بما يسعدهم في الدنيا والآخرة من العقائد الصحيحة، والعبادات الحكيمة، والأحكام الرَّفيعة، والأخلاق الفاضلة التي تستقيم بها حياتهم.
ولقد تضافرت نصوص الكتاب، والسُّنّة، وإجماع الأمة على عالمية القرآن، ومن الصعوبة بمكان استقصاء جميع الآيات التي تحدَّثت عن عالمية القرآن [1].
وقد ذَكَرَ بعضُهم: «أَنَّ عدد الآيات الدَّالة على عالمية القرآن تزيد على ثلاث مائة وخمسين آية» [2].
وهناك أربع آيات تُعْلِن بكل وضوح أنَّ القرآن ذِكْرٌ لجميع العالمين:
﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴾ [يوسف: 104]، [ص: 87]، [القلم: 52]، [التكوير: 27].
والمتأمِّلُ في ألفاظ هذه الآيات الأربع، وتعبيراتها، يجد مقصودَهُ منها على عالمية القرآن، وقد استنبط بعض علماء التفسير من هذه الآيات الآتي:
أولاً: أنها جاءت بصيغة الحصر، فهذه الصِّيغَة الحصرية تنفي عن القرآن كُلَّ صفةٍ تنافي عالميَّتَه، وتجعل عالميته منصوصاً عليها بكل وضوح[3].
ثانياً: أنه مُذكِّرٌ للعالَم أجمع، باعتبار أنه مخاطَبٌ به الإنس والجن، فهو يُذكِّرُهم ويُخاطبهم بما يحتاجون إليه فرداً وأسرةً ومجتمعاً.
ولفظ: ﴿ لِلْعَالَمِينَ ﴾ عام للإنس والجن، ممن عاصروا النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم، وممن جاؤوا بعده إلى قيام الساعة [4].
ثالثاً: العالَمين جَمْعٌ عُرِّفَتْ بـ(ال) فتدل على معنى الاستغراق. فالجمع المُعَرَّفُ بـ(ال) من صِيَغِ العُمُوم في اللُّغة العربية.
ولفظ (عالَم) مفرد العالمين، فهو يَعُمُّ كُلَّ ما في الكون، فإذا جُمع بالواو والنون يكون خاصاً بالعقلاء من الإنس والجن أجمعين.
فدلت لفظة ﴿ لِلْعَالَمِينَ ﴾ على أنَّ القرآنَ العظيم ذِكْرٌ لجميع عقلاء الإنس والجن بلا تقييد من مكان، أو زمان، أو طبقة، أو جنس.
يقول الرازي – رحمه الله: «لفظ العالمين يتناول جميع المخلوقات، فدلَّت الآية على أنه رسولٌ للخَلْقِ عامة إلى يوم القيامة»[5].
ولا ريب أن عموم رسالة النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم يتحقَّقُ بعالِميَّةِ كتابه الذي أُرسل به إلى الناس كافة «يتذكَّرون به ربَّهم، وما له من صفات الكمال، وما يُنَزَّهُ عنه من النقائص، والرذائل، والأمثال. ويتذكرون به الأوامِرَ والنواهي، وحِكمَها. ويتذكرون به الأحكام القدريةَ، والشرعيةَ، والجزائية.
وبالجملة، يتذكَّرون به مصالحَ الدَّارَين، وينالون بالعمل به السَّعادتين» [6].
ومن الآيات التي صَرَّحت بعالمية القرآن العظيم:
1- قوله تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1].
2- وقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].
3- وقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ﴾ [الإسراء: 89].
4- وقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [الزمر: 27].
5- وقوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ﴾ [الزمر: 41].
يقول ابن عاشور – رحمه الله – في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ : «صِيْغَتْ بأبلغ نَظْمٍ؛ إذ اشتملت هاته الآية – بوجازة ألفاظها – على مدح الرسول عليه الصلاة والسلام، ومدحِ مُرسِلِه تعالى، ومدحِ رسالته بأن كانت مَظْهَرَ رحمة الله تعالى للناس كافة، وبأنها رحمةُ الله تعالى بِخَلقِه.
فهي تشتمل على أربعةٍ وعشرين حرفاً بدون حرف العطف الذي عُطِفَتْ به، ذُكِرَ فيها الرسولُ، ومرسِلُه، والمرسَلُ إليهم، والرسالةُ، وأوصافُ هؤلاء الأربعة، مع إفادة عموم الأحوال، واستغراق المرسل إليهم، وخصوصية الحصر، وتنكير ﴿ رَحْمَةً ﴾ للتعظيم؛ إذ لا مقتضى لإيثار التنكير في هذا المقام غير إرادة التعظيم، وإلاَّ لقيل: إلاَّ لنرحم العالَمين، أو إلاَّ أنك الرحمة للعالَمين. وليس التنكير للإفراد قطعاً لظهور أنَّ المرادَ جِنْسُ الرحمة، وتنكير الجنس هو الذي يعرض له قصد إرادة التعظيم. فهذه اثنا عشر معنى خصوصياً، فقد فاقت أَجْمَعَ كلمةٍ لبلغاء العرب، وهي: قِفا نَبْكِ من ذِكرَى حبيبٍ ومنزل، إذ تلك الكلمة قُصاراها كما قالوا: “وَقَفَ واستوقف وبكى واستبكى وذَكَرَ الحبيبَ والمنزلَ” دون خصوصيةٍ أزيد من ذلك، فَجَمَعَ ستةَ معانٍ لا غير» [7].
ويتحدَّث ابن القيِّم – رحمه الله – عن عموم الآية فيقول:
«أصَحُّ القولين في هذه الآية: أنها على عمومها.
وفيها على هذا التَّقدير وجهان:
أحَدُهما: أن عموم العالَمين حصل لهم النفع برسالته.
أمَّا أتباعه فنالوا بها كرامة الدنيا والآخرة.
وأمَّا أعداؤه المحارِبُون له: فالذين عُجِّلُ قتلُهم وموتُهم خَير لهم؛ لأن حياتهم زيادة لهم في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة، وهم قد كُتِبَ عليهم الشقاء، فتعجيلُ مَوتِهِم خير لهم من طول أعمارهم في الكفر.
وأمَّا المعاهدُون له: فعاشوا في الدنيا تحت ظِلِّه وعهدِه وذِمَّتِه، وهم أَقَلُّ شراً بذلك العهد من المحارِبين له.
وأمَّا المنافقون: فحصل لهم بإظهار الإيمان به حَقْنُ دمائِهم، وأموالِهم، وأهليهم، واحترامُها، وجريان أحكام المسلمين عليهم في التوارث، وغيرها.
وأمَّا الأمم النائية عنه: فإن الله سبحانه رَفَعَ برسالته العذابَ العامَّ عن أهل الأرض، فأصاب كُلَّ العالمين النَّفْعُ برسالته.
الوجه الثاني: أنه رحمةٌ لكل أحد، لكن المؤمنون قَبِلوا هذه الرحمة فانتفعوا بها دنيا وأخرى، والكفار رَدُّوها، فلم يخرج بذلك عن أن يكون رحمةً لهم، لكن لم يقبلوها، كما يقال: هذا دواءٌ لهذا المرض. فإذا لم يستعمِلْه لم يخرج عن أن يكون دواءً لذلك المرض» [8].
وهناك كلمات وتراكيب في القرآن تُخاطِبُ الناس كافة بلا تقييد بجنس أو زمن أو طبقة، مما يوحي بعالميةِ القرآن، وخلودِ أحكامه إلى الأبد، ومن هنا نلحظ أن القرآن يستعمل خطابَ العمومِ دون الخصوص [9]، والإطلاقِ دون التقييد، وقَلَّما تُذكَر المُخَصِّصات والمحدِّدات والمقيِّدات؛ كالأمكنة المحددة، أو الأزمنة الخاصة، أو الأشخاص المعيَّنة، وإذا ما وقعت حاجة أثناء البيان القرآني للتخصيص بصفة أو نحوها؛ فإنما ينتقي القرآنُ منها صفات عامة، خصوصيتها أقل: كالمؤمنين، والمتقين، والصالحين، والكافرين، والمنافقين، والغافلين، وأمثالها مما لا يختص بجنس أو طبقة، دون أن يُقَيِّدَ ذلك بالحجازيين، أو المكيين، أو المدنيين مثلاً مما يُضَيِّقُ دائرة اللفظ.
تأمَّلْ – على سبيل المثال – في آيات الإفك، رغم أنها نزلت في أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فإنك لا ترى فيها تحديداً بالاسم، أو النَّسَب، أو القرابة للمفترى عليها [10].
ومما يُفْصِحُ كذلك عن عالمية القرآن العظيم، ما يُذكر في معرض بيان فوائد القصص والأمثال، أنه – تبارك وتعالى – ضَرَبَ للناس، أو صَرَّف للناس من كل مثل، فيذكر الناس بصيغة الجمع، المعرَّف باللام، المفيد للاستغراق كما هو معروف عند أهل العربية [11].
وَمِمَّا سَبَقَ يتبين لنا أن عالمية القرآن مظهرٌ جليٌّ من مظاهر عظمته، والتي تدل بوضوح أيضاً على عظمة مُنزِّله سبحانه وتعالى.
[1] تأمَّلْ نماذج للآيات التي تدل على عالمية القرآن في أرقام آيات السور الآتية: (البقرة: 185)، (النساء: 1، 79، 170، 174)، (الأعراف: 158)، (يونس: 57، 99، 104، 108)، (يوسف: 104)، (الإسراء: 89، 94، 105، 106)، (الأنبياء: 107)، (الحج: 1، 5، 27، 49، 73)، (الفرقان: 1، 50، 51، 56)، (الأحزاب: 45، 46)، (سبأ: 28)، (فاطر: 24)، (ص: 87)، (القلم: 52)، (التكوير: 27).
[2] دلالة أسماء سور القرآن الكريم من منظور حضاري، د. محمد خليل جيجك، (ص132).
[3]انظر: التحرير والتنوير (17/125).
[4]انظر: تفسير أبي حيان (6/480)، تفسير ابن عطية (4/199).
[5]التفسير الكبير (24/40).
[6] تفسير السعدي (5/379).
[7] التحرير والتنوير (17/121).
[8]جلاء الأفهام (ص181، 182).
[9]من التراكيب والتعبيرات العالمية، الواسعة الدلالات والمفاهيم: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ ﴿ يَا بَنِي آدَمَ ﴾ ﴿ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾. مما يعم كل فرد من غير فرق، على الرغم من ضِيق الدائرة البشرية التي نَزَلَ فيها القرآن آنذاك.
[10]انطلاقاً من الاتجاه القرآني إلى التعميم في غالب أحواله، ودلالاته، اتخذ علماء الفقه وأصوله في الآيات المنزَّلة لسبب خاص قاعدة: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب».
[11]انظر: دلالة أسماء سور القرآن الكريم من منظور حضاري (ص137-141).